إعادة تدوير المخلَّفات لتصميم بناء مُستدام

أبنية – خاص

 إعادة تدوير مخلَّفات البناء تعد خطوة حيوية نحو تحقيق التصميم المستدام، حيث تمثل هذه المخلَّفات نسبة كبيرة من النفايات الصلبة الناتجة عن مشاريع البناء والهدم. في ظل تزايد القلق البيئي حول استنزاف الموارد الطبيعية وزيادة تراكم النفايات، تأتي إعادة تدوير هذه المخلَّفات كحل فعَّال يقلل من الأثر البيئي للمشاريع العمرانية. ويمكن استخدام المواد المعاد تدويرها مثل: الخرسانة، والخشب، والزجاج في عمليات البناء مجددًا، مما يسهم في تقليل الاعتماد على الموارد الجديدة، والحد من الانبعاثات الكربونية، وتحقيق مبانٍ مستدامة وصديقة للبيئة.

هذا التوجه نحو إعادة التدوير لا يعزز فقط كفاءة الموارد، ولكنه يدعم أيضًا الاقتصاد الدائري، حيث تُحوَّل المخلفات إلى مواد قابلة للاستخدام مرة أخرى، مما يقلل من النفايات ويحسن جودة الحياة البيئية.

ماذا تعني إعادة التدوير؟

اعتمدت إعادة التدوير على فكرتين: الأولى إعادة الاستخدام التي تعني توظيف العناصر والمكونات لأداء مهام جديدة، مما يتطلب تعديلًا في وظيفتها الأصلية، وهي ممارسة تهدف إلى ترشيد الاستهلاك وتحسين جودة البيئة. أما الثانية، فهي إعادة التدوير، وتشمل معالجة المخلفات بطرق ميكانيكية أو فيزيائية لاسترجاع المواد القابلة لإعادة الاستخدام مثل: الخشب والألومنيوم والزجاج، مما يقلل من حجم المخلفات المرسلة إلى المدافن ويخفض تكاليف التخلص منها.

تتمثل الفكرة الأساسية لإعادة التدوير وإعادة الاستخدام في ابتكار طرق ملائمة للاستفادة من المواد والمخلفات. ويتضمن ذلك إمكانيتين رئيسيتين: الأولى هي إعادة استخدام المنتج ذاته “Recycling Product” بنفس الطريقة، والثانية هي إعادة تصنيعه كمنتج جديد من خلال تدوير الخامة نفسها “Material Recycling” في إطار منتج مختلف، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.

و”إعادة التدوير” تعني الحفاظ على الشكل العام والقيمة للمنتج بعد تحديثه وإعادة إنتاجه، مع توظيفه في نفس المهام الأصلية التي تم إنشاؤه من أجلها. فهذا النهج يسهم بشكل فعَّال في تقليل النفايات وتعزيز الاستدامة، مما يجعله جزءًا أساسيًا من الاستراتيجيات البيئية المعاصرة.

أشكال إعادة التدوير

  • إعادة تدوير المنتج بالكامل: يتم تطوير المنتج إلى شكل آخر مع الحفاظ على قيمته العالية، بحيث يمكن استخدامه لمهام جديدة أو لمهمته الأصلية بعد تحسينه.
  • إعادة تدوير الأجزاء: يتم فصل مكونات المنتج وتفكيك أجزائه، ثم استخدامها في إنتاج منتجات أخرى. هذا قد يؤدي إلى فقدان بعض الخصائص الأصلية، ولكن يتم استخدام الناتج بطرق مختلفة.
  • إعادة تدوير المواد: تشمل هذه العملية إعادة تصنيع المواد المكونة للمنتج في صناعات مماثلة أو مختلفة، بعد فصلها ومعالجتها بطرق كيميائية أو حرارية مع مراعاة حماية البيئة.

محددات نجاح إعادة التدوير

  • المتطلبات البيئية: تهدف إلى تقليل استهلاك الطاقة والانبعاثات الضارة، وضمان توافق المنتجات المعاد تدويرها مع البيئة.
  • المتطلبات التقنية: الحاجة إلى تقنيات تضمن إنتاج مواد بنفس مواصفات المواد الجديدة، أو لاستخدامها في منتجات أخرى ذات جودة أقل نسبيًا.
  • المتطلبات الاقتصادية: التكلفة تؤدي دورًا حاسمًا. فبعض عمليات التدوير تُستبعد بسبب تكلفتها العالية، وهذا يعتمد على طبيعة المنتج ودرجة فصله وتجهيزه.

آثار إعادة التدوير البيئية

  • تقليل قطع الأشجار لصناعة الورق، الذي يؤدي إلى فقدان الغابات وتقليل المساحات الخضراء.
  • إعادة استخدام الحديد المسترجع تسهم في تقليل استنزاف المناجم لمادة الحديد.
  • إعادة تدوير كل طن من البلاستيك توفر 700 كجم من البترول الخام.
  • استرجاع 1 كجم من الألمنيوم يوفر 8 كجم من البوكسيت، و4 كجم من المواد الكيميائية، و14 كيلو واط/ ساعة من الكهرباء.
  • استرجاع طن واحد من الكرتون يساهم في توفير 2.5 طن من الخشب، مما يقلل من قطع الأشجار، فيحد من الانبعاثات الكربونية.
  • إعادة استخدام كل ورقة يمكن أن يوفر 1 لتر من الماء، و2.5 واط/ ساعة من الكهرباء، و15 جرامًا من الخشب.

كيف استفاد المصممون من إعادة تدوير المخلَّفات؟

  • منازل مقاومة للزلازل Relief Disaster Haiti

في إطار تحسين مقاومة الزلازل، يتم استخدام تقنية الجدران المصنوعة من الإطارات المملوءة بالتربة، التي يتم دمجها مع السواتر الترابية لتشكيل كتلة حرارية. هذه الكتلة تساعد في تنظيم درجات الحرارة الداخلية من خلال توفير العزل الحراري للتدفئة والتبريد بشكل طبيعي، مما يقلل الحاجة إلى أنظمة تدفئة وتبريد ميكانيكية. هذه التقنية تُستخدم ليس فقط لتحقيق الاستدامة البيئية، ولكن أيضًا لتعزيز متانة المباني وقدرتها على تحمل الزلازل.

يُعتبر مشروع“Spinach House”  المبني عام 1979 في نيو مكسيكو، تجربة ممتازة للبناء الترابي. وكذلك بُنيَ على نحوه منزل مقاوم للزلازل في دولة هايتي “المطلة على البحر الكاريبي”، ولكن باستخدام إطارات السيارات وزجاجات البلاستيك، والذي عُرف بمشروع “Relief Disaster Haiti“.

  • فلسفة بناء سفينة الأرض “Earthship

في إطار تصميم البناء المستدام باستخدام تدوير المخلفات، تعتمد فلسفة بناء سفينة الأرض”Earthship” – النموذج الذي بُنيَ في الولايات المتحدة – على استخدام مواد معاد تدويرها مثل إطارات السيارات القديمة والزجاجات الفارغة بدلًا من الطوب التقليدي. وتتميز هذه المواد بقدرتها على توفير عزل حراري وصوتي عالي الجودة، مما يجعل المنازل المبنية بها أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.

كذلك تركز هذه الفلسفة على الاستدامة والاكتفاء الذاتي من خلال اعتماد مصادر طاقة متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتوليد الكهرباء، بالإضافة إلى تجميع مياه الأمطار ومعالجة مياه الصرف الصحي بطريقة صديقة للبيئة. كما تستخدم النباتات والأسماك لتنقية المياه الرمادية، مما يساهم في زراعة الخضراوات والنباتات داخل هذه المنازل.

هذا النهج الأميركي قدَّمَ نموذجًا مثاليًا للبناء المستدام، حيث يدمج بين تقنيات التصميم البيئي وتدوير المخلفات لتحقيق اكتفاء ذاتي كامل.

  • الزجاجات البلاستيكية“TEC-ECO”

تعتبر الزجاجات البلاستيكية، رغم عدم تقليدية استخدامها في البناء، من المواد المعاد تدويرها التي تحمل مزايا متعددة. فهي متوفرة بكثرة، مما يجعلها منخفضة التكلفة. إضافة إلى ذلك، تظهر الزجاجات البلاستيكية قوة ملحوظة عندما تكون مملوءة، حيث يمكن أن تمتص الأوزان المفاجئة، مما يجعلها مثالية لإنشاء هياكل متينة. ومع أن الزجاجات البلاستيكية تحتاج إلى مئات السنين للتحلل، فإن استخدامها في البناء يساهم في تقليل النفايات ويعزز من استدامة المشاريع المعمارية.

مشروع (TEC-ECO) الذي أسسه أندرياس فروسي مثالٌ بارز على استخدام الزجاجات البلاستيكية في البناء. من خلال تنفيذ أكثر من 50 مشروعًا في دول مثل هندوراس وكولومبيا وبوليفيا، تم بناء منازل صديقة للبيئة باستخدام نحو 8000 زجاجة بلاستيكية و12 مترًا مكعبًا من الرمال. وتتمثل خطوات البناء في ملء الزجاجات بالرمل، ثم ربطها معًا باستخدام مزيج من التراب والطين، مما يوفر قوة إضافية. يساهم هذا النوع من البناء في تحسين العزل الحراري، مما يقلل من تكاليف التدفئة والتبريد، ويعزز من الكفاءة البيئية للمنازل.

ولكن.. كيف يمكن مواجهة تحدِّيَّات إعادة تدوير المخلَّفات

إعادة تدوير المخلَّفات في تصميم المباني المستدامة تواجه عدة تحدِّيَّات، تراوح بين القضايا الفنية والتشريعات والسياسات الاقتصادية، ومن أبرزها:

  • نقص التشريعات والرقابة :في كثير من الدول لا توجد قوانين صارمة تنظم إدارة النفايات من البناء والهدم، مما يؤدي إلى عدم الالتزام بالممارسات المستدامة. وعدم إنفاذ القوانين يمكن أن يشجع على الممارسات غير المستدامة في التخلص من المخلَّفات.
  • ضعف الوعي والمعرفة: قلة الوعي لدى المطورين والمقاولين حول فوائد إعادة التدوير وأهمية إدارة النفايات تؤدي إلى تقليل الجهود المبذولة في هذا المجال. ويؤدي التعليم والتدريب دورًا حاسمًا في تحسين هذه المعرفة​.
  • التكلفة الاقتصادية: في بعض الأحيان، يُعتبر إعادة تدوير المخلَّفات مكلفًا أكثر من التخلص التقليدي منها، خاصةً في البلدان النامية. وتكاليف النقل والمعالجة قد تكون مرتفعة، مما يدفع بعض الشركات للاعتماد على الخيارات الأقل تكلفة.
  • البنية التحتية غير الكافية: عدم وجود منشآت متخصصة في إعادة التدوير، أو ضعف القدرة على معالجة النفايات، يجعل من الصعب تنفيذ برامج إعادة التدوير بشكل فعال. كما أن نقص التجهيزات والمعدات اللازمة يعوق هذه العمليات.
  • عوامل ثقافية واجتماعية :قد تؤثر القيم الثقافية والاجتماعية على تقبل المجتمع لفكرة إعادة التدوير. وفي بعض الأحيان، لا تُعتبر إعادة التدوير أولوية، مما يعوق الجهود في هذا الاتجاه​.

تظل العوائق المذكورة آنفًا ضمن إشكاليات استكمال طريق إعادة تدوير المخلَّفات، التي تحتاج إلى ثقافة إدارية وحكومية قوية مدعومة بوعي مجتمعي. لكنَّ السعى خلف تصميمات مُبتكرة تحمي الإنسان، ستظل شُريانًا يمد أمل الحياة لبُنى مُستدامة تحفظ حق الأجيال المتعاقبة في مسكن ومأوى.

Related posts

استراتيجيات الظل والضوء في تصميم مُستدام

الملاعب الرياضية.. تصميم البناء من أجل المتعة والتشجيع

بنايات على الورق: كيف تظل بعض التصميمات حبيسة العقل؟