استراتيجيات “الاقتصاد الدائري” في العمارة.. هل يمكن بناء مدينة كاملة من المواد المعاد تدويرها؟

أبنية – خاص

يتبلور الاقتصاد الدائري كحل مبتكر لتحقيق التنمية المستدامة. يهدف هذا النموذج إلى تقليل الهدر من خلال إعادة استخدام المواد والمنتجات، مما يسهم في تقليل الانبعاثات الملوثة والحفاظ على البيئة.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة، مثل تغير المناخ وتراكم النفايات واستنزاف الموارد الطبيعية، يبرز سؤال:
“هل يمكن أن تتحول النفايات إلى لبنات بناء لمدن المستقبل؟”
نعم، يمكن بناء مدينة كاملة باستخدام مواد معاد تدويرها، وذلك من خلال تطبيق استراتيجيات الاقتصاد الدائري في العمارة والتخطيط الحضري. تتطلب هذه العملية تحولًا جذريًا في كيفية تصميم المدن وبنائها، مع التركيز على إعادة استخدام الموارد وتقليل النفايات.

المواد المعاد تدويرها كأساس للبناء
تُعَدُّ المواد المعاد تدويرها حجر الزاوية في تحقيق الاستدامة في قطاع البناء. تُستخدم الخرسانة الذكية، التي تحتوي على مستشعرات مدمجة، في بناء هياكل أكثر استدامة، حيث تساهم في تقليل استهلاك الموارد الطبيعية والانبعاثات الكربونية. أمّا الفولاذ المتجدد، فيُعاد تدويره من المباني القديمة لاستخدامه في مشاريع البناء الجديدة، مما يقلل من الحاجة إلى استخراج خامات جديدة ويخفض البصمة الكربونية.
بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم المواد الحيوية مثل الخشب المعاد تدويره والألياف النباتية في البناء، مما يوفر بدائل مستدامة للمواد التقليدية. تُسهم هذه المواد في تقليل الأثر البيئي وتحسين كفاءة الطاقة في المباني.

دمج الاقتصاد الدائري في التخطيط الحضري
في ظل تزايد الحاجة إلى مدن أكثر استدامة، يبرز دمج الاقتصاد الدائري في التخطيط الحضري كخيار استراتيجي. فهو يعيد صياغة العلاقة بين العمران والموارد من خلال حلول مثل التصميم من أجل التفكيك، والتوأم الرقمي، وإعادة استخدام الأصول الحضرية القائمة.

التصميم من أجل التفكيك
يُشجع هذا النهج على تصميم المباني بحيث يمكن تفكيكها بسهولة وإعادة استخدام مكوناتها، مما يطيل عمر المواد ويقلل من النفايات.

التوأم الرقمي
يُستخدم التوأم الرقمي لمراقبة حالة المباني وتخطيط الصيانة بشكل ديناميكي، مما يعزز من كفاءة استخدام الموارد.
التخطيط الحضري الدائري
يتضمن هذا النهج إعادة استخدام الأراضي والمباني القائمة، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، وتعزيز الاقتصاد المحلي من خلال دعم الصناعات المعاد تدويرها.

مدن طبّقت الاقتصاد الدائري.. نماذج رائدة
في مدينة لوفين البلجيكية، يُطبَّق مفهوم الاقتصاد الدائري من خلال ما يُعرف بـ”التعدين الحضري”، حيث تُستخرج المواد القابلة لإعادة الاستخدام من المباني القديمة بدلًا من التخلص منها. هذا التوجّه يُقلل من استنزاف الموارد الطبيعية ويُعزّز من استدامة سلسلة الإمداد في قطاع البناء، مما يجعل لوفين نموذجًا رياديًا في إدارة الموارد داخل البيئة الحضرية.

أما في روتردام الهولندية، فقد تم تحويل النفايات البلاستيكية المعاد تدويرها إلى بنية تحتية خضراء، أبرزها الحدائق العائمة التي أُنشئت على سطح المياه. هذه المبادرة البيئية لا تسهم فقط في التخلص من النفايات بطريقة مبتكرة، بل تفتح المجال لتعزيز التنوع البيولوجي وتحسين جودة الهواء والمياه داخل المدينة.

وفي السعودية، وتحديدًا ضمن رؤية “2030”، تم إنشاء أول منشأة من نوعها في الرياض لإعادة تدوير مخلفات البناء والهدم. تهدف هذه المنشأة إلى إعادة تدوير 60% من هذه المخلفات بحلول عام 2035، وتقع في مخطط الخير شمال المدينة. المشروع نتاج شراكة بين المركز الوطني لإدارة النفايات وأمانة الرياض وشركة “سرك”، ويعد خطوة ملموسة نحو تطبيق الاقتصاد الدائري في البيئة الحضرية السعودية.

في مصر، تُجسِّد العاصمة الإدارية الجديدة توجّه الدولة نحو مدن ذكية ومستدامة. تُبنى هذه المدينة باستخدام مواد معاد تدويرها، وتُدار مواردها بكفاءة من خلال حلول تكنولوجية حديثة. كما تُعد جزءًا من استراتيجية وطنية أوسع للتحول نحو الاقتصاد الدائري، تعززها أطر تشريعية مثل قانون “تنظيم إدارة المخلفات لعام 2020″، ما يجعلها منصة عملية لمستقبل عمراني أكثر توازنًا واستدامة.

ختامًا، في طريق تبنّي الاقتصاد الدائري في العمارة، لا تخلو التجربة من تحديات حقيقية؛ أبرزها ضعف الوعي المجتمعي بأهمية المواد المستدامة، ووجود قيود تنظيمية تعيق الابتكار، إضافة إلى التكاليف الأولية المرتفعة التي قد تُثني بعض المستثمرين أو الجهات المعنية. إلا أن هذه العقبات ليست مستعصية، بل يمكن تجاوزها من خلال سياسات داعمة، وتوعية مجتمعية واسعة، وحوافز اقتصادية تشجع على التحول الأخضر.
ورغم التحديات، فإن الفرص التي يفتحها هذا النموذج هائلة، بدءًا من تقليل الانبعاثات الكربونية، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، وصولًا إلى تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال خلق وظائف جديدة في مجالات إعادة التدوير والتشييد المستدام. ومع تصاعد التحديات البيئية العالمية، لم يعد بناء مدينة من مواد معاد تدويرها حلمًا نظريًا، بل ضرورة حضرية واقتصادية، تشكّل ملامح مستقبلٍ أكثر مرونة واستدامة.

Related posts

روعة الزجاج في العمارة الحديثة.. شفافية تعانق الإبداع

التحديات التقنية والاقتصادية لتوظيف “ألياف الكربون” في واجهات الأبنية الحديثة

تطبيقات الطاقة الجوفية في المشاريع السكنية.. فرص وتحديات