تحديات بناء ناطحات السحاب: تحقيق التوازن بين الجمال والوظيفة والسلامة

أبنية – خاص

صار التعالي في البُنيان سمة من سمات التفوُّق المعماري والمدني على مستوى العالم، حيث تظل هذه الطريقة واحدة من مظاهر الاستباق بين العديد من المؤسسات والدول، لا سيما أنَّ هذا الاستباق صار يتمازج مع كل معايير الجمال والسلامة. فمن هذه الجماليات المذكورة ناطحات السحاب التي تمتاز بارتفاعها الشاهق في السماء، والتي لطالما عبَّرت عن الحضارة والعظمة، كالحضارة الفرعونية التي تميزت ببناء الأهرامات التي كانت قممها تصل إلى أعلى نقاط بعدًا عن الأرض بحسب رؤية وفكر أهل هذا الزمان.

لكن ظلَّ التفكير في البناء الشاهق عبر الحضارات المختلفة قائمًا على الشكل العملاق والكبير للمعبد والقصور، والتي تشير نحو العظمة، ولم يكن للسكن فيها سبيل وليس فيها مأرب آخر سوى ذلك.

أول ناطحة سحاب في التاريخ

في إطار الاكتشافات الأثرية المهمة في قرية الفاو، عُثر على لوحة جدارية تصور برجًا أثريًا، يُعتقد أنه أول ناطحة سحاب عرفتها البشرية، بُنيت حوالي 400 سنة قبل الميلاد. هذا البرج الفريد كان يضم العديد من المرافق، ويعكس مهارات العرب القدامى في العمارة المتطورة آنذاك. فوفقًا للمسوحات الأثرية التي أجراها عدد من الباحثين، تم تسجيل هذا الاكتشاف الفريد في منطقة كانت تُعتبر مركزًا تجاريًا حيويًا. كان البرج يُشاهد من مسافات بعيدة، مما جعل الفاو محطة رئيسية في تاريخ طرق التجارة القديمة.

بعد منتصف القرن العشرين

بعد منتصف القرن العشرين، بدأ التطور في بناء ناطحات السحاب، شكلاً وفكرًا، حيث تطورت النظرة لأن يكون هناك دليل على المعمار والتقدَّم في عنان السماء، ليُعد برج 875 North Michigan Avenue في شيكاغو أول ناطحة اكتمل بناؤها عام 1969. بلغ ارتفاع – هذا البناء – البرج 344 مترًا (1.128 قدمًا)، وضمَّ 100 طابق، ما جعله أحد أبرز المعالم المعمارية في المدينة. تم تصميم البرج باستخدام هيكل فولاذي بالكامل، ليكون نموذجًا لثورة العمارة الحديثة التي اعتمدت على الفولاذ في البناء. ويجمع البرج بين الوحدات السكنية والمكاتب التجارية، ليصبح رمزًا للتطور المعماري والحضري في تلك الفترة.

أول ناطحة سحاب في العصر الحديث

قبل نحو 139 عامًا سجلت مدينة شيكاغو الأميركية تشييد أول ناطحة سحاب عُرفت حينئذٍ بـ”مبنى بيت التأمين”، إذ صمّمها المهندس المعماري ويليام لوبارون جيني في ثمانينيات القرن التاسع عشر، واعتُبرت أول ناطحة سحاب في العالم في ذلك الوقت، رغم أنها تتكون من عشرة طوابق حتى عُرفت باسم “الأب” لناطحات السحاب كافة.

تطوُّرت فكرة بناء الناطحات والأبراج، وظلَّت تتصاعد بمرور الزمن، على مدار القرن العشرين وأول عقدَيْن من القرن الذي يليه، مرورًا ببرج مركز التجارة الدولي في هونج كونج عام 2003، وبرج تايبيه 101 في تايوان عام 2004 والمشهور بتصميمه المعماري الفريد الذي جميع الطابع الآسيوي والأوروبي، كما أنّه مقاوم للزلازل وللأعاصير، ثم برج مركز التجارة التجارة العالمي 1، الذي تم إنشاؤه على أنقاض مركز التجارة العالمي المنهار في مدينة نيويورك وتم افتتاحه رسميًا في نوفمبر 2014، ثم برج المركز المالي بمدينة غوانزو الصينية، الذي جاء في المرتبة السابعة كأعلى ناطحة سحاب في العالم بارتفاع يبلغ 530 مترًا، ويطلق عليه برج الشرق،  ثم NEVA TOWERS 2 في عام 2020 في موسكو الروسية، حتَّى حلول عام 2023، والذي أُضيفت فيه ثلاث ناطحات سحاب بارزة إلى الأفق العالمي، وهي:

  • برج “Il Primo Tower” في دبي بارتفاع 356 مترًا و79 طابقًا مخصصة للاستخدام السكني.
  • برجي “Galaxy World Tower 1″ و”Galaxy World Tower 2” في مدينة شنتشن الصينية، بارتفاع مماثل يبلغ 356 مترًا لكل منهما مع 71 طابقًا، ويستخدمان مزيجًا من الخرسانة والفولاذ لأغراض مكتبية.

نماذج عربية جَمَاليَّة لأعلى ناطحات سحاب

يتصدر برج خليفة في دبي قائمة أطول ناطحات السحاب في العالم بارتفاع مذهل بلغ 828 مترًا، ما يعادل 2717 قدمًا، ليصبح معلمًا هندسيًا عالميًا. بفضل تصميمه الفريد المكون من 163 طابقًا، والذي يجمع بين الفولاذ والخرسانة، جمع البرج بين المكاتب الفاخرة والوحدات السكنية والفنادق الفخمة. وقد عزز برج خليفة مكانة دبي كوجهة عالمية للابتكار العمراني والهندسة المعمارية المتقدمة، والشكل الجمالي. وكذلك ساعة مكة المكرمة التي تعد جزءًا من مجمع أبراج البيت الذي يضم فندق فيرمونت في مكة المكرمة. وبارتفاع يزيد على 600 متر، تُعتبر هذه الساعة الأعلى والأكبر في العالم. تم تشغيلها بشكل تجريبي لأول مرة خلال شهر رمضان عام 1431هـ، وتمتاز بشكل جمالي رائع بلون أخضر مضيء يمكن رؤيته كخلفية ساحرة لساحة المسجد الحرام، كم تلتقطها بعض الصور.

برج جدة

بالرغم من كونه لا يزال تحت الإنشاء، فإنّ برج جدَّة بمجرَّد اكتماله، سيصبح أطول من برج خليفة في دبي بأكثر من 172 مترًا، ويأمُل الخبراء فيه بأنَّه سيكون محور تطوير مدينة جدة الاقتصادية.

البرج الأيقوني

وفي مصر بخلاف العديد من الأبنية والأبراج، يبدو البرج الأيقوني – وهو قيد الإنشاء – في حي المال والأعمال بالعاصمة الإدارية الجديدة في مصر، والذي تنفذه شركة CSCEC الصينية، بارتفاع 385 مترًا، واحدًا من الأبراج الذي سيجمع بين السلامة ومعايير الأمان من جهة والشكل الجمالي، بحيث يصبح أطول برج في مصر وإفريقيا، وقد بدأ العمل عليه في فبراير 2019، واكتمل صب الهيكل الخرساني في يونيو 2021، مع مشاركة واسعة من المهندسين والعمال المصريين في المشروع.

تقنيات ذكية ومستدامة في بناء ناطحات السحاب

هناك مجموعة من التقنيات أو الأساليب الذكية والمتطوِّرة، التي كانت في الحُسبان منذ بناء أولى ناطحات السحاب، التي تطوَّرت بطبيعة الحال. فيمكن إجمال هذه التقنيات في مجموعة من “معايير السلامة”، كما يلي:

  • مقاومة الجاذبية الأرضية: تحدي البناء العمودي

من أكبر التحديات التي تواجه بناء ناطحات السحاب هو مقاومة الجاذبية الأرضية. على سبيل المثال، مثلما يصعب عليك حمل شخصين ثقيلين في وقت واحد، كذلك يصبح من الصعب بناء ناطحة سحاب بدون قاعدة قوية تدعم الطبقات العليا. تقليديًا، كانت المباني القديمة مثل الأهرامات تعتمد على قاعدة واسعة لدعم الطوابق العليا. ومع ذلك، هذه الطريقة تصبح غير عملية عند بناء ناطحات السحاب التقليدية التي تفوق 10 طوابق. بفضل التقدم في إنتاج الحديد والفولاذ، أصبح بالإمكان بناء منشآت أكثر ارتفاعًا مع الاعتماد على الأعمدة المعدنية لدعم المبنى بدون الحاجة إلى قاعدة ضخمة.

  • شبكة ضخمة من العوارض: تعزيز الثبات الإنشائي

تعتمد ناطحات السحاب الحديثة على شبكة فولاذية معقدة مكونة من أعمدة وعوارض رأسية وأفقية تساهم في توزيع الثقل. وتتشكل شبكة دعم ثلاثية الأبعاد تساعد في نقل وزن المبنى إلى الأعمدة الرأسية، التي بدورها توزع الثقل على القاعدة. وتعمل هذه الهياكل الفولاذية على إحداث تحول في تصميم المباني، حيث تسمح للجدران الخارجية بأن تكون خفيفة وشفافة، مما يسمح باستخدام الزجاج للحصول على إطلالات رائعة على المدينة.

  • جعل ناطحات السحاب عملية: المصاعد والسلامة

لم يكن بناء ناطحات السحاب أمرًا عمليًا قبل ظهور المصاعد، التي أتاحت سهولة التنقل بين الطوابق. بالإضافة إلى ذلك، كان لا بدَّ من ابتكار حلول لمكافحة الحرائق وتأمين السلامة في المباني العالية. وتطورت تقنيات مقاومة الحرائق وظهرت أنظمة رش أوتوماتيكية قادرة على إطفاء معظم الحرائق بسرعة. وأيضًا، تم تصميم المباني بحيث تكون مريحة للمقيمين، مع نوافذ واسعة وحدائق داخلية، مما يجعل تجربة العيش والعمل داخل ناطحات السحاب أكثر جاذبية.

  • مقاومة الرياح: السيطرة على الحركة الأفقية

تتعرض ناطحات السحاب لقوى الرياح التي يمكن أن تسبب تأرجح المبنى بشكل طفيف، وهو ما قد يشعر به سكان المباني. فتم تطوير تقنيات متقدمة مثل استخدام أجهزة ترطيب لتحييد تأثير الرياح، حيث يتم تحريك كتل بيتونية ضخمة في الطوابق العليا لتعديل مركز الثقل ومواجهة الاهتزازات. وبفضل هذه التقنيات، أصبحت ناطحات السحاب قادرة على الصمود أمام الرياح والهزات الأرضية، مما يضمن استقرارها وسلامة السكان.

ختامًا، يظل بناء الأبراج والناطحات تجسيدًا للارتفاع الشاهق ومظاهر الحياة المتطورة، مما يجعلها جاذبة لكثير من الفئات والشرائح المجتمعية. فقد أصبحت المؤسسات تسعى لبنائها، ساعيةً إلى إرساء أثر حضاري وتوفير بيئة تجمع مختلف المهام .إنها تمثل تحقيقًا للتوازن بين الجمال والوظيفة والسلامة.

Related posts

التصميم الداخلي العصري: كيف تطور مفهوم الفضاء السكني في عصرنا الحالي؟

إعادة تأهيل المباني التراثية: كيف تحافظ الهندسة المعمارية الحديثة على التاريخ؟

التكنولوجيا في خدمة العمارة: كيف تغير الطباعة ثلاثية الأبعاد مستقبل البناء؟