أبنية – خاص
يقع في جنوب المدينة المنورة وعلى بُعد حوالي 3.5 كيلومتر من المسجد النبوي، يقف مسجد قباء كأول مسجد أُسِّس في الإسلام، والذي نال شرف التأسيس بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورد ذكره في قوله تعالى:
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِن أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، ما يضفي عليه مكانة دينية وروحية خاصة في قلوب المسلمين، ويجعل زيارته والصلاة فيه من السنن النبوية ذات الأجر العظيم.
المكانة التاريخية والروحية لمسجد قباء
أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسجد فور وصوله إلى المدينة مهاجرًا، وشارك بنفسه في بنائه، في مشهد يتجاوز الجانب العمراني إلى ترسيخ مفهوم الجماعة والعبادة في المجتمع الإسلامي الوليد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبًا وماشيًا كل سبت، ويحث المسلمين على ذلك، كما جاء في الحديث:
“من تطهّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه، كان له كأجر عمرة” [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
المسجد، بتاريخه الممتد لأكثر من 1400 سنة، مرّ بعدة توسعات، أبرزها في العصر العثماني، ثم في عهد الدولة السعودية، وصولًا إلى التوسعة الحديثة التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
مشروع التوسعة الكبرى: أفق عمراني جديد
في خطوة تعكس العناية المتجددة بالمواقع الإسلامية التاريخية، أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في عام 2022 مشروع التوسعة الكبرى لمسجد قباء، وذلك خلال زيارته للمدينة المنورة، حيث أدى الصلاة فيه وأعلن بدء أعمال التطوير رسميًا. تأتي هذه التوسعة في إطار مبادرة إعمار المساجد التاريخية، التي تُعد إحدى مبادرات رؤية السعودية 2030 الهادفة إلى تأهيل وتوسيع المساجد ذات البعد الديني والحضاري، وإبراز هويتها الثقافية بما يتوافق مع المعايير العمرانية الحديثة.
يمثل المشروع أكبر توسعة يشهدها مسجد قباء منذ تأسيسه، حيث سيتم توسيع مساحة المسجد من 5,035 مترًا مربعًا إلى أكثر من 50,000 متر مربع، أي بزيادة تُعادل 10 أضعاف المساحة الحالية. ويشمل المشروع كذلك تطوير المرافق الخدمية المحيطة، وتحسين البنية التحتية لتسهيل وصول الزوار، مع الحفاظ على الطراز المعماري الأصيل الذي يُجسد الهوية الإسلامية للمنطقة.
ومن المتوقع أن تؤدي التوسعة إلى رفع الطاقة الاستيعابية من 20,000 مصلٍ إلى أكثر من 66,000 مصلٍ، مما يُتيح استقبال أعداد ضخمة من الزوار خلال المواسم الدينية، خاصة في رمضان والحج، دون التأثير على خصوصية المكان أو روحه التاريخية. ويُعد هذا التوجه العمراني استجابة عملية للنمو السكاني والتوسع الحضري حول المدينة المنورة، ويؤسس لنموذج عمراني فريد يوازن بين قدسية المكان ومقومات العمارة المستقبلية.
الهوية العمرانية والتطوير الذكي للمحيط التاريخي
يتضمن مشروع التوسعة تطوير المواقع التاريخية المحيطة بمسجد قباء، من خلال استحداث مسارات مخصصة للزوار، وتحسين البنية التحتية والمرافق، وتوفير مواقف سيارات ذكية، وربط المسجد بالمسجد النبوي عبر مسارات مخصصة للمشاة ووسائل النقل العام. ويحرص التصميم على دمج العمارة الإسلامية الأصيلة مع التقنيات الحديثة، مثل أنظمة التهوية الطبيعية والإضاءة المستدامة، بما يحافظ على طابع المكان ويعزّز تجربة الزائر الروحية.
كما يُعد المشروع جزءًا من استراتيجية السعودية لتعزيز السياحة الدينية والثقافية، وتفعيل دور المدينة المنورة كمركز حضاري عالمي ضمن رؤية المملكة 2030.
مسجد قباء في قلب الهوية الإسلامية
يُمثل مسجد قباء نقطة التقاء بين التاريخ والروحانية والتجديد المعماري، فهو ليس فقط أول مسجد في الإسلام، بل محطة مستمرة للتطوير الذي يراعي الإرث ويحاكي المستقبل. ومع مشروع التوسعة الحالي، يُعاد تقديم المسجد للعالم كمعلَم ديني عالمي يستوعب الأعداد المتزايدة من الزوار، ويُقدم نموذجًا حيًا على كيف يمكن أن تُبنى المساجد على “التقوى” والتقنية معًا.