أبنية – خاص
تعتبر جودة البيئة المعمارية أحد العناصر الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر على تجارب التعلم وأداء الطلاب في المؤسسات التعليمية. مع تزايد الوعي بأهمية الاستدامة، أصبحت التقنية الحديثة تمارس دورًا محوريًا في تصميم وبناء مبانٍ تعليمية تلبي احتياجات الحاضر وتضمن مستقبلًا أفضل للأجيال القادمة. وتتجه العديد من المؤسسات التعليمية نحو تبني استراتيجيات بناء مستدامة، تتضمن استخدام مواد مبتكرة، وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة، واستغلال الموارد الطبيعية بطريقة مسؤولة.
يسعى الاتجاه السابق نحو خلق بيئات تعليمية لا تقتصر فقط على توفير المساحات التعليمية، بل تسهم أيضًا في تعزيز صحة ورفاهية الطلاب والمعلمين على حد سواء. في هذا السياق، تبرز أهمية دمج التكنولوجيا الحديثة في تصميم المباني التعليمية، مما يسهم في تحقيق معايير عالية من الجودة والفعالية، ويدعم الهدف الأسمى المتمثل في توفير بيئة تعليمية متميزة تحفز الإبداع والتفكير النقدي لدى الطلاب.
أهمية البيئة التعليمية المستدامة
في تقرير “التعليم والاستدامة” الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية العلم والثقافة (اليونيسكو) تبدو توصية غاية في الأهمية تقول: “ولكي يتمتع التعليم بقدرة تحويلية تمكنه من دعم الخطة الجديدة للتنمية المستدامة، لا بدَّ له من الارتقاء إلى مستوى أعلى مما هو عليه الآن، أي أن “التعليم على النحو المعتاد” لن يكون كافيًا لتلبية متطلبات التنمية المستدامة. فالتعليم ينبغي أن يرتقي بالتفكير ليكون تفاعليًا وتكامليًا وتعاطفيًا واستشرافيًا وجامعًا. وينبغي أن تصبح المدارس أماكن مثالية تنضح بالاستدامة، وأن تكون ديمقراطية وشاملة للجميع وغير استبعادية، وأن تكون صحية خالية من الكربون، وبهذا تصبح قادرة على إرساء الأسس لتحقيق أهداف التنمية المستدامة”.
ومن هنا نجد أن تسليط الضوء على ضرورة توفير بيئة تعليمية صحية وعالية الجودة، بكل مشتملاتها وقدراتها المنهجية والعملية، لها دور وأثر كبير في عملية تحسين وتطوير تجربة التعلم. فالتعليم أساس من أسس الطموح نحو الاستدامة، التي تضمن عدم تهميش أي فئة أو شريحة بسبب نقص أو فقر. وهذا الأمر يمنع حدوث نتائج أكثر سوءًا.
تأثير تكنولوجيا البناء الحديثة
اختلفت بيئة التعليم تمامًا عن الماضي، حيث كانت تُبنى عشوائيًا فقط لجمع الطلاب في مكان واحد. وتساهم تكنولوجيا البناء الحديثة في تحسين الجودة المعمارية للمباني التعليمية، مما يؤدي إلى تحسين العملية التعليمية بشكل كبير.
ومن ثَمَّ، فإنَّ عددًا من استراتيجيات ونماذج البناء تنجح بشكل واسع المدى في تحقيق تأثير تكنولوجيا البناء في جودة المباني التعليمية، كما يلي:
- نمذجة معلومات البناء (BIM)
تعتبر نمذجة معلومات البناء (BIM) من التقنيات الحديثة التي غيرت جذريًا في صناعة البناء والهندسة المعمارية، حيث تعتمد على إنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد يحتوي على كافة البيانات والمعلومات الخاصة بالهيكل، بما في ذلك الجوانب الهندسية والهيكلية والميكانيكية. هذه النماذج الرقمية تسمح للمصممين والمهندسين بتحليل المخططات وتوقع المشكلات المحتملة قبل البدء في البناء، مما يؤدي إلى تقليل الأخطاء وتوفير الوقت والتكاليف.
تُسهم BIM في تعزيز التعاون بين الفرق المختلفة في المشروع، حيث تتيح للمهندسين والمعماريين ومديري المشاريع الوصول إلى معلومات دقيقة ومحدثة عبر منصة إلكترونية مشتركة. كما أنها تسهم في تحسين إدارة الموارد، حيث تساعد على تقدير كميات المواد المطلوبة وتقليل الفاقد والنفايات الناتجة عن عمليات البناء، ما ينعكس بتعزيز الأثر المُستدام على الجودة البيئية والاقتصادية في قطاع المباني التعليمية، التي تحتاج إلى نوع من الاستقرار، لطبيعة مكانتها في تخريج الأجيال.
- الذكاء الاصطناعي (AI) في البناء
يعد الذكاء الاصطناعي أحد العناصر الأساسية التي تعيد تشكيل صناعة البناء من خلال تحسين العمليات وزيادة الكفاءة. ويستخدم الذكاء الاصطناعي في مختلف مراحل دورة حياة المشروع، بدءًا من التخطيط حيث يمكن للأنظمة تحليل البيانات وتوقع التحديات المحتملة. هذه القدرات تساهم في اتخاذ قرارات أكثر دقة حول التصميم واختيار المواقع المناسبة للبناء.
خلال مرحلة التنفيذ، يعمل الذكاء الاصطناعي على تحسين سلامة مواقع البناء من خلال أنظمة مراقبة متطورة. بعد الانتهاء من المشروع، يساعد أيضًا في إدارة الأصول وصيانة المباني من خلال التنبؤ بالأعطال المحتملة. هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي يسهم في تسليم المشاريع في الوقت المحدد وتحقيق كفاءة أعلى في استغلال الموارد، مما يجعل صناعة الأبنية التعليمية أكثر استدامة وسرعة في التنفيذ.
- إنترنت الأشياء (IoT) والبناء الذكي
تعد إنترنت الأشياء (IoT) أحد الابتكارات الحديثة التي تسهم في تحسين صناعة البناء، حيث تقوم بتوصيل الأجهزة الذكية في مواقع البناء عبر الإنترنت. هذه الأجهزة قادرة على مراقبة العوامل البيئية مثل درجات الحرارة والرطوبة واستهلاك الطاقة، مما يتيح تحليل البيانات بدقة وتقديم معلومات قيمة حول أداء الموقع.
تساعد هذه التكنولوجيا في تحسين استخدام الموارد الطبيعية، حيث يمكن ضبط أنظمة الإضاءة والتكييف تلقائيًا حسب الحاجة. كما تسهم في إدارة استهلاك الطاقة والمياه بشكل فعال، مما يقلل من التكاليف التشغيلية ويعزز الاستدامة البيئية داخل مجتمع تعليمي يسعى نحو التميُّز والتطوُّر.
يُعزز البناء الذكي تجربة المستخدم وجودة الحياة، مما يمثل تحولًا نحو مستقبل أكثر ذكاءً في صناعة المباني التعليمية.
خفض تكاليف الطاقة
يمكن أن يسهم التصميم المستدام المعتمد على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء بشكل كبير في تقليل تكاليف الطاقة في المنشآت التعليمية، من خلال دمج أنظمة ذكية لمراقبة استهلاك الطاقة وإدارتها، يمكن للمدارس تحسين كفاءة استخدام الموارد وتقليل الفاقد، حيث تستخدم هذه التقنيات بيانات حقيقية لتحليل الأنماط وتوقع الاحتياجات، مما يؤدي إلى ضبط الأنظمة بشكل دقيق، مثل الإضاءة والتكييف، لا سيَّما إن تم اعتماد تصاميم تستغل الإضاءة وجودة التهوية الطبيعية، وعناصر أخرى لخفض الحرارة كالخشب من أجل هذا الغرض.
ومن ثَمَّ، فإن تحقيق مستويات أعلى من الكفاءة في استهلاك الطاقة يساهم في تحسين ميزانيات المدارس، حيث يتم توجيه المدخرات المالية نحو تحسين جودة التعليم وتوفير موارد إضافية. لذا، فإن اعتماد هذه الحلول التكنولوجية الحديثة يمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز الاستدامة في البيئة التعليمية.
دور المواد المبتكرة
يعد توظيف قضبان التسليح المنتجة من ألياف البازلت (BFRP) من المواد الحديثة التي تعزز الانتقال بالمباني التعليمية نحو البناء الأخضر، نظرًا لخصائصها الفريدة وفوائدها البيئية. وتتميز هذه القضبان بخفة وزنها ومتانتها العالية، مما يجعلها خيارًا مثاليًا للاستخدام في مشاريع البناء المستدامة. وتوفر BFRP أداءً ممتازًا في مقاومة التآكل والضغط، مما يساهم في زيادة عمر المنشآت وتقليل الحاجة للصيانة الدورية، وبالتالي تقليل الفاقد في الموارد.
تتماشى قضبان التسليح المنتجة من ألياف البازلت مع الاتجاهات العالمية نحو الحفاظ على البيئة وتحقيق الاستدامة، حيث تشكل هذه المواد حجر الأساس لإنشاء مشاريع بنائية صديقة للبيئة وفعّالة من حيث الطاقة. مع تزايد الوعي بالقضايا البيئية وضرورة التحول إلى ممارسات بناء أكثر استدامة، أصبح الاعتماد على هذه المواد المستدامة ضرورة ملحة وليس مجرد خيار تفضيلي لتحقيق جودة بنائية للمؤسسات التعليمية.
تُظهر ألياف البازلت تفوقًا ملحوظًا على المواد التقليدية مثل الألياف الزجاجية، حيث تنخفض تأثيراتها البيئية بنسبة تصل إلى 90%. بالإضافة إلى ذلك، يُسهم إنتاج هذه القضبان في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مما يجعلها خيارًا صديقًا للبيئة ويعزز من جودة ومتانة الهياكل، مما يسهم في إرساء أسس بناء أكثر استدامة.
نماذج بناء تكنولوجي ناجحة
دوليًا:
- كولومبيا
في كولومبيا، صارت مناهج التعليم الأساسي، التي شارك في تطويرها ما يُعرف بـ”مجلس المستوطنات المستدامة في الأميركتين”، تطبِّق مفهوم “العيش البهيج”، الذي يقر بإسهام جماعات السكان الأصليين، في المشاريع الإيكولوجية الحضرية، والقرى التقليدية المستدامة، ونظم الإنذار المبكِّر من الكوارث الطبيعية، والتكيُّف مع متغيِّرات المناخ، وغير ذلك.
- دلهي
في مدينة دلهي الهندية، برز اتجاه لدى شركات في تطوير البنية التحتية التعليمية في المدينة تحتاج إلى مساحات لا تُسهم فقط في عملية التعلُّم، بل تُلهم أيضًا الإبداع وتعزز الشعور بالانتماء للمجتمع، وذلك من خلال استخدام مواد صديقة للبيئة وأنظمة كفاءة الطاقة في الحفاظ على البيئة وتعليم الطلاب أهمية الاستدامة.
ومن باب السلامة، تضمنت الممارسات المعمارية الحديثة هناك تجهيز المدارس بأحدث ميزات الأمان، وكذلك المرونة وقابلية التكيف في إمكانية تغيير احتياجات المؤسسات التعليمية باستمرار، بأسلوب يسمح بإجراء التعديلات والتوسعات عند الحاجة.
- عربيًا السعودية:
درست وما زالت تدرس المملكة العربية السعودية مشروعًا حقيقيًا في جلب إمكانات ومنهجيات قديرة في مجال التحوَّل نحو إنشاء بنية تعليمية خضراء. وبرغم قسوة الحياة الصحراوية، وبرغم صعوبات المناخ الحار، ظلَّت الدولة، منذ 2002، تبحث عن طريق ينطلق بها نحو هذا الاتجاه، بخُطى ملحوظة نحو تصميم يراعي حالة من الأريحية للطالب داخل المدارس على مستوى اتساع الفصول واستخدام عناصر جيدة في البناء أخذت تتطور على مدى السنين؛ إذ كانت الثقافة القديمة للتعليم العربي في ذلك الوقت، لا تُولي اهتمامًا شاسعًا لهذه المسألة، فكانت تعتمد على إقامة المؤسسات لتنفيذ الغرض.
في بدايات عام 2012، أطلقت المملكة العربية السعودية برنامجًا باسم مدارس الحس البيئي “School Sense”، بتعاون مشترك بين وزارة التعليم وجمعية البيئة السعودية والهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة. واشتمل البرنامج على عدد من المدارس والروضات، في إطار الاتجاه الاستراتيجي الخاص بالتوعية البيئية والتنموية، وتكوين جيل أكثر حماسـًا لقضايا البيئة وأسلوب الحياة الخضراء واعتماد كل ما يُستجد من تقنيات البناء.
- الإمارات
في بلادنا العربية تُعتبر تجربة دولة الإمارات في التعليم الأخضر نموذجًا – أكثر قُربًا – مميزًا يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة، حيث تجسدت مبادرة شراكة التعليم الأخضر مع مؤسسة “اليونسكو” رؤية الدولة في بناء جيل قادر على مواجهة التحديات البيئية. ووفقًا لتوجيهات الدولة يتم طلاء مباني جميع المدارس بمواد صديقة للبيئة. كما أكدت الإمارات ضرورة تعزيز جودة مخرجات التعليم في كافة المراحل بما يتماشى مع الاستراتيجية المستقبلية لخفض البصمة الكربونية وتطبيق معايير الاستدامة في البنى التحتية.
وتعدُّ الإمارات النموذج الأكثر قُربًا وتحقيقًا لهذا الأمر، لأنَّها اعتمدت من الأساس نجاح تجربتها في خفض كميات النفايات إلى نحو 23%، وخفض معدل استهلاك المياه بنحو 54%، وزيادة أعداد الطلاب الذين يستخدمون الحافلات المدرسية، بدلًا من السيارات الخاصة إلى 19%، بهدف خفض كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من وسائل النقل.
- مصر والأردن
بدأت مصر في عام 2020 بتطبيق مشروع “بناء جيل جديد من أجل التنمية المستدامة”، بدعم من اليونيسكو والاتحاد الأوروبي. ويشمل المشروع تعاونًا مع عدد من المدارس والجامعات المحلية والأجنبية، مثل جامعة آخن الألمانية، ومؤسسة مرك الإيرلندية، وجامعة جراتس النمساوية. ويركز المشروع على أربعة محاور رئيسة تشمل الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، والتنوع البيئي، ومصادر المياه، مع تجهيز مراكز تدريبية لتدريب المعلمين على طرق تدريس حديثة ومتفاعلة. كما أعلنت مصر عن خطط لتوسيع المدارس المستدامة وفق نظام “توكاتسو” (وهو نظام يعتمد على الطاقة المتجددة والتصميم البيئي المستدام)، بإنشاء 100 مدرسة جديدة وإعادة تأهيل 100 مدرسة قائمة.
أمّا في الأردن، فتمَّ إطلاق برنامج للمدارس البيئية المستقبلية، الذي ساهم في تحقيق وفورات مالية تصل إلى 40% من فواتير المياه والطاقة. وقد نقل الطلاب فكرة البرنامج إلى منازلهم، مما أدى إلى تأثير واضح في فواتيرهم بعد تطبيق البرنامج.
ختامًا، أصبحت فكرة جودة البيئة المعمارية واقعًا ملموسًا في العالم وفي بلادنا العربية، حيث يتم استغلال كافة الإمكانيات المتاحة. وصارت هذه النماذج تستحق التعميم على نطاق واسع، فهي ليست مجرد نماذج نظرية بل واقع ملموس.
ربَّما القدرات والجهود التكنولوجية في الأبنية التعليمية لم تزل قيد التنفيذ ولم تنل حظَّها الوفير من واقع هذا البناء، لكنَّها انطلقت من إطار الحُلم نحو مستقبل واعد.