استراتيجيات الظل والضوء في تصميم مُستدام

أبنية – خاص

في عالم يتجه نحو الاستدامة، يعتبر التوازن بين الظل والضوء عنصرًا محوريًا في التصميم المعماري والداخلي. إذ تسهم الإضاءة الطبيعية في تعزيز الجمال البصري والراحة النفسية، بينما يوفر الظل الحماية من حرارة الشمس الزائدة ويقلل من استهلاك الطاقة. ومن خلال تبني استراتيجيات مبتكرة في توزيع الضوء والظل، فكما كان التلاعب بالإضاءة والظلال على المسرح لإعجاب المتفرِّجين، يمكن للمصممين – حاليًا – خلق بيئات مُستدامة تدمج بين الجمال والوظيفة. هذه الاستراتيجيات لا تقتصر فقط على تحسين جودة الحياة داخل المساحات، بل تعكس أيضًا الالتزام بالمسؤولية البيئية.

تسعى هذه الرؤية إلى تحقيق توازن مثالي بين متطلبات التصميم واحتياجات المستخدمين، مما يسهم في خلق مساحات تعزز من الشعور بالانتماء والاستدامة.

مفاهيم الظل والضوء

1- الظل الحقيقي والظل الخيالي

عندما يسقط الضوء على جسم غير شفاف يتشكل منطقتان رئيسيتان: المنطقة المضيئة التي تتلقى الضوء مباشرة، ومنطقة الظل الحقيقي حيث يعيق الجسم وصول الضوء. يتأثر طول الظل الخيالي، الذي ينشأ على السطح أسفل الجسم، بموقع المصدر الضوئي، حيث يتغير طوله وموضعه وفقًا لزاوية ارتفاع الضوء.

2- الظل Shadow

يُعدُّ الظل عنصرًا أساسيًا في إبراز الأشكال بطريقة ثلاثية الأبعاد. فهو يستخدم بعد دراسة دقيقة للعناصر الطبيعية. ويمكن رسم الظل بأقلام الرصاص أو الفحم، مع تنويع التظليل عبر درجات مختلفة من اللون، مثل الأسود والرمادي، مما يعزز الإحساس بالعمق والتجسيم في العمل الفني من خلال خلق تأثيرات بصرية تتراوح بين الفاتح والغامق.

3- الضوء Light

أمَّا الضوء، فوظيفته تكمن في إبراز الخصائص الفريدة للأجسام والطبيعة، مما يعكس الضوء على الظل ويعمل على زيادة وضوح الأشكال، بخلاف الظل الذي يضفي غموضًا وإخفاء لبعض المعالم.

ويعد استخدام الضوء والظل من أهم العناصر في التصميم، حيث يرتبط بشكل وثيق بجوانب الشكل وقيمته الفنية. ويجب على الفنانين أن يقوموا بتقييم أعمالهم بعيون ناقدة لمراجعة توزيع الضوء والظل، حيث يساعد ذلك في رؤية العمل من منظور متوازن بين الأجزاء المضيئة والمعتمة.

تأثير الإضاءة في الأماكن الداخلية

تسهم الإضاءة بشكل كبير في تحسين نشاط الأفراد داخل أماكن العمل، حيث تؤدي دورًا أساسيًا في توفير الراحة وتعزيز الأداء. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر الإضاءة على كيفية إدراك الناس للمعالم المعمارية، مما يسهم في إنشاء تجربة فريدة تربط الإنسان بالمكان عاطفيًا. وقد أكدت جمعية مهندسي الإضاءة “IES” الأميركي، أن الإضاءة تخلق تأثيرات عاطفية متعددة، مثل جذب الانتباه، وتحسين الإدراك، وتغيير المزاج، مما يبرز أهمية تصميم الإضاءة بعناية لتلبية احتياجات المستخدمين.

زاوية نسخة معدلة مع تصحيح بعض الجمل:

لزاوية واتجاه الضوء تأثيرات عميقة على تجارب الإنسان وذاكرته المرتبطة بالوقت. يتوقع الإنسان أن يكون ضوء الشمس في منتصف النهار عموديًا، بينما يظهر ضوء الغروب والشروق بزاوية منخفضة مما يؤدي إلى ظلال أطول. وتوجيه الضوء يوفر أدلة بصرية مهمة تساعد المستخدمين على فهم الفضاء بشكل أفضل، وتوجيه حركتهم داخله. على سبيل المثال، في حالة وجود لوحة فنية، يمكن تسليط الضوء عليها لزيادة التركيز عليها، مما يجعلها المركز البصري في التصميم الداخلي.

الضوء والظل في التصميم.. هكذا يُدرك المصمون

الظل هو الظلام الناتج عن جسم يحجب الضوء عن الوصول إلى سطح معين، كما يحدث عندما نضع شيئًا تحت أشعة الشمس، مما يؤدي إلى تكوين منطقة مظلمة تعرف بالظل. يوجد الظل في شكلين: الظل الكامل، الناتج عن مصدر ضوء صغير مقارنة بالجسم؛ والظل المشعشع، حيث يمر بعض الضوء من خلال الجسم. ويتأثر الظل بمصدر الضوء، حيث تكون الظلال واضحة في الأيام المشمسة وباهتة في الأيام الضبابية.

يوجد الضوء والظل في حياتنا اليومية ويتغيران باستمرار نتيجة حركة الأجسام ومصادر الضوء. على الرغم من أن عقولنا تدمج الظلال مع الأجسام بشكل غير واعٍ، مما يساعد في إدراك العالم بشكل ثلاثي الأبعاد، فإن المصممين يجب أن يكونوا واعين لموقع الضوء والظل. وتعديل الظل أو الضوء يمكن أن يغير تمامًا الإدراك العام للعمل أو التصميم.

تعتمد الرؤية على حساسية شبكية العين للضوء المنبعث أو المنعكس من الأجسام. تنقسم مصادر الضوء إلى طبيعية، مثل الشمس والنجوم، واصطناعية، مثل المصابيح والشموع. وتتنوع الأجسام في الطبيعة بين الشفافة، ونصف الشفافة، وغير الشفافة، وتختلف قدرتها على عكس الضوء. وتمتص الأجسام ذات الأسطح الداكنة معظم الضوء، بينما تعكس الأجسام اللامعة كمية أكبر منه، مما يؤثر بشكل كبير على توجيه الإضاءة في التصميم.

استراتيجيات الإضاءة متعددة المستويات

1- توجيه الضوء بشكل فعال

تعد فعالية توجيه الضوء من العناصر الأساسية في استراتيجيات الإضاءة المتعددة المستويات. من خلال توجيه مدروس لمصادر الضوء، يمكن تحقيق أهداف محددة ضمن المساحات المختلفة. فبهذه التقنية يتحسن وضوح الرؤية بشكل ملحوظ، مما يساهم في راحة الأفراد وزيادة إنتاجيتهم. كما يمكن استخدام تقنيات التوجيه لجذب الانتباه إلى عناصر معينة داخل المساحة، مما يعزز التجربة البصرية للزوار. علاوة على ذلك، يسهم توجيه الضوء بدقة في تقليل التلوث الضوئي، مما يوفر طاقة كبيرة.

2- التحكم في السطوع والتوزيع

يعد التحكم في السطوع والتوزيع عنصرًا أساسيًا لإنشاء أجواء مريحة في المساحات. يتيح تعديل مستويات السطوع تلبية احتياجات الأفراد والنشاطات المختلفة؛ حيث يمكن زيادة السطوع للتركيز، وتقليله لخلق أجواء هادئة. كما يسهم التحكم في توزيع الضوء في توجيه الإضاءة بشكل متوازن أو تركيزها على عناصر محددة. وتعزز التكنولوجيا الحديثة، مثل أنظمة الإضاءة الذكية، من فعالية هذه التحكمات.

3- الاعتماد على مصادر متعددة للإضاءة

يعد استخدام مصادر متنوعة للإضاءة أساسًا لاستراتيجيات الإضاءة متعددة المستويات، حيث يتيح تجارب شاملة تتناسب مع مختلف الظروف. ويضيف تنوع المصادر، مثل الإضاءة الطبيعية والاصطناعية، ديناميكية إلى الفضاء، ويلبي احتياجات الأنشطة المختلفة. وباستخدام تقنيات إضاءة LED عالية الكفاءة، يمكن تحقيق استدامة بيئية وتوفير في استهلاك الطاقة، مما يساعد أيضًا في توفير راحة بصرية متوازنة ويخفف من إجهاد العين.

4- التكامل مع التصميم الداخلي

تعد مسألة التكامل مع التصميم الداخلي أحد العوامل الأساسية لنجاح استراتيجيات الإضاءة متعددة المستويات. يتعين أن يتناغم الإضاءة مع الديكور الداخلي، مما يعزز من جمالية المساحة. ويجب اختيار المصابيح بعناية لضمان توازن بصري يتناسب مع الأثاث والألوان المستخدمة. ويمكن أيضًا استخدام الإضاءة كعنصر ديكوري، من خلال اختيار تصاميم فريدة تضيف لمسة جمالية. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن استخدام الإضاءة لخلق أجواء محددة تعزز المزاج، سواء كانت دافئة أو ساطعة، مما يعكس الحاجة إلى تفاعل الإضاءة مع البيئة المحيطة.

5- التحكم في الإضاءة القابلة للتحكم

يُعد التحكم في الإضاءة القابلة للتحكم من المزايا العصرية التي تسهم في تحسين تجربة الإضاءة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال أجهزة التحكم عن بعد التي تتيح للمستخدمين ضبط الإضاءة من أي مكان. كما تتيح التقنيات الذكية التحكم في الإضاءة باستخدام تطبيقات الهواتف الذكية، مما يمكّن المستخدمين من ضبط الإضاءة وفقًا لجداول زمنية معينة. وتساهم أنظمة الأتمتة المنزلية في دمج الإضاءة مع الأجهزة الأخرى، مما يعزز من سهولة الاستخدام. وفي النهاية، توفر نظم التحكم المركزية إدارة فعّالة للإضاءة في أماكن متعددة، مما يسهل العملية ويزيد من راحة المستخدمين.

نماذج استغلال الظل والضوء في التصميم

متحف اللوفر في أبوظبي

صُممت قبة متحف اللوفر بشكل مستوحى من أشجار النخيل والطبيعة في أبوظبي، حيث تم استخدام تكنولوجيا التظليل الشمسي لسقف القبة والتظليل الذاتي للمباني. يسمح التصميم بدخول ضوء النهار إلى داخل المبنى دون زيادة حرارته، مما يساهم في تحريك وتدفق الهواء. والقبة، المستوحاة من الهندسة المعمارية العربية، تتكون من 7.850 نجمة مكررة بمختلف الأحجام والزوايا في ثماني طبقات. وعند مرور الشمس، تنساب أشعتها عبر نجوم القبة، مُحدثة تأثيرًا يُعرف بـ”شعاع النور”، حيث تلتقط الأوراق أشعة الشمس الساطعة وتخلق بقعًا من الضوء على أرض المتحف، مما يعزز تجربة الزائر.

المقبرة الإسلامية في فرنسا

في تصميم المقبرة الإسلامية في فرنسا، تم استخدام رموز تعبر عن حياة البرزخ والمرحلة الانتقالية بين المادة والنور. يعكس هذا التصميم الفريد الفكرة الإسلامية عن الانتقال من الوجود الحسي إلى الوجود غير المرئي، مما يعكس التأمل الروحي ويعزز من ارتباط الزائر بالمعتقدات الثقافية والدينية.

بانثيون في روما

يعتبر بانثيون في روما معبدًا لجميع الآلهة، حيث تسقط أشعة الضوء من ثقب مركزي كبير يُعرف بـ”العين” في الجزء العلوي من القبة. هذا التصميم يُبرز التلاعب بالظل والنور، حيث يساهم الضوء في تأكيد منحنى السقف، مما يعكس رمزية الاتصال بين السماء والعالم الأرضي. وتخلق أشعة الشمس المتدفقة من العين تأثيرات بصرية رائعة، تضيف عمقًا وجمالًا للمكان وتعزز من روحانية الفضاء.

تمثال رمسيس الثاني بالمتحف المصري الكبير

في عام 2020، نجح مهندسون مصريون في التجربة الأولى لتعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني بالمتحف المصري الكبير، كمحاكاة لظاهرة تعامد الشمس التي تحدث مرتين سنويًا بقدس الأقداس بمعبد أبوسمبل جنوبي أسوان في 21 فبراير و21 أكتوبر من كل عام. لقد اعتمد المصممون على ارتفاع تمثال رمسيس وبناء عليه تم تحديد الزاوية المفترض فتحها وتحديد المعوقات، التي كانت تتمثل في وجود جزء فولاذي في واجهة المدخل يعيق نفاذ أشعة الشمس.

تم تعديل التصميم في مساحة صغيرة بما يسمح بدخول أشعة الشمس، وبعد إجراء عدة تجارب للتأكد من تعامد الأشعة على وجه التمثال في الموعد المحدد من كل عام، بدأت التجربة الأولى في فبراير الماضي من خلال ثلاث نقاط مختلفة. تم اختيار أفضل نقطة تحقق الظاهرة المطلوبة بناءً على الظروف المناخية والعوامل الهندسية للمبنى. وقد تم تحقيق الهدف بتعامد الشمس على وجه التمثال، واستكمل العمل بكساء الواجهة بزجاج يسمح بمرور الضوء ويُضفي لمسة جمالية على الواجهة.

ختامًا، يبقى الظل والضوء متضادان، تمامًا كالظلام والنور، إلَّا أنَّ لدى المصمم الفنَّان قدرات تخيلية، تمكِّنه من إنتاج أفكار رائعة في التصميم، تُشرق على مستقبل يدعونا كل لحظة نحو الاستدامة.

Related posts

الملاعب الرياضية.. تصميم البناء من أجل المتعة والتشجيع

إعادة تدوير المخلَّفات لتصميم بناء مُستدام

بنايات على الورق: كيف تظل بعض التصميمات حبيسة العقل؟