أبنية – خاص
لطالما كان قطاع البناء يعتمد على مواد وتقنيات تقليدية لم تتغير بشكل جذري على مدار العقود الماضية، لكن اليوم، نحن نشهد تحولًا علميًا وتكنولوجيًا يدمج بين الهندسة الحيوية وعلوم البناء، ما يفتح الباب أمام مبانٍ قادرة على النمو، الإصلاح الذاتي، والتكيف مع البيئة المحيطة.
الهندسة الحيوية في البناء ليست مجرد فكرة خيالية أو تصور مستقبلي بعيد المنال، بل هي حقيقة قيد التطوير والتطبيق، وتعمل عليها كبرى الجامعات والمختبرات في العالم. من خلال محاكاة سلوك الكائنات الحية، يمكننا إنشاء مبانٍ أكثر كفاءة، استدامة، وقدرة على الاستجابة للتغيرات البيئية، مما يُحدث ثورة في صناعة التشييد.
الهندسة الحيوية في البناء: مفهوم ثوري يتحدى التقاليد
الهندسة الحيوية في مجال البناء تعتمد على دمج المواد البيولوجية مع تقنيات البناء الحديثة لإنشاء مبانٍ لا تحتاج إلى صيانة تقليدية، بل تستطيع إصلاح نفسها بشكل تلقائي، أو حتى النمو مثل الكائنات الحية. هذا المفهوم مستوحى من أنظمة بيولوجية طبيعية مثل:
نمو العظام، حيث تستطيع أجسامنا إعادة بناء العظام المكسورة تلقائيًا.
الجلد البشري، الذي يتجدد ويُصلح الجروح بسرعة.
الشعاب المرجانية، التي تبني هياكلها الكلسية باستمرار عبر عمليات حيوية دقيقة.
هذه المبادئ يتم تطبيقها على مواد البناء لجعلها “حية” قادرة على الاستجابة للبيئة وإصلاح نفسها، ما يفتح المجال أمام تقنيات لم نشهدها من قبل، مثل الجدران المتحركة، الهياكل المتكيفة، والمواد الذكية التي تتحكم في تدفق الهواء والحرارة تلقائيًا.
أمثلة على الابتكارات الحيوية في قطاع التشييد
الخرسانة الحيّة ذاتية الإصلاح
الخرسانة هي المادة الأكثر استخدامًا في البناء، لكنها تواجه مشكلة أساسية تتمثل في التشققات التي تحدث بسبب الضغط والتغيرات المناخية. هذه الشقوق، حتى لو كانت صغيرة، تسمح بتسرب المياه والمواد الكيميائية، مما يؤدي إلى تآكل الحديد الداخلي وضعف المبنى بمرور الوقت. في العادة، يتم إصلاح التشققات يدويًا بمواد لاصقة أو بخرسانة جديدة، لكن هذه الحلول مكلفة وتستهلك الكثير من الوقت والموارد. لهذا، طورت الهندسة الحيوية حلاً ثوريًا يتمثل في الخرسانة الحيّة ذاتية الإصلاح، التي تحتوي على بكتيريا Bacillus التي تبقى غير نشطة داخل الخرسانة، لكنها تنشط عند تعرضها للماء، فتفرز كربونات الكالسيوم، مما يؤدي إلى ملء التشققات وإعادة الهيكل إلى حالته الأصلية.
مشروع رائد اعتمدته جامعة دلفت للتكنولوجيا (Delft University of Technology) في هولندا تعد من أوائل المؤسسات التي طورت هذا النوع من الخرسانة. أجريت تجارب عديدة على هذه المادة، وأظهرت النتائج أن الخرسانة الحيّة يمكن أن تضاعف عمر الهياكل الخرسانية، مما يقلل الحاجة إلى الإصلاحات الدورية. هذا الابتكار ليس فقط اقتصاديًا، بل إنه أيضًا يساهم في تقليل انبعاثات الكربون الناتجة عن إنتاج الخرسانة الجديدة. إن تبني هذه التقنية على نطاق واسع يمكن أن يغير مستقبل البناء، خصوصًا في البنية التحتية الضخمة مثل الجسور والطرق السريعة.
الطوب البيولوجي المصنوع من البكتيريا
إنتاج الطوب التقليدي يعتمد على عملية الحرق في أفران عالية الحرارة، وهي عملية تتسبب في انبعاث كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من البصمة الكربونية لصناعة البناء. هذه المشكلة دفعت الباحثين إلى البحث عن بدائل أكثر استدامة، مما أدى إلى تطوير الطوب البيولوجي، وهو نوع من الطوب الذي يتم تصنيعه باستخدام بكتيريا قادرة على تحويل الرمال إلى مادة صلبة تشبه الحجر الجيري، تمامًا كما تفعل الشعاب المرجانية في الطبيعة عند بناء هياكلها المرجانية. هذه التقنية تعتمد على بيئة كيميائية حيوية، حيث تنمو البكتيريا داخل القوالب وتنتج مواد رابطة طبيعية، مما يلغي الحاجة إلى الحرق التقليدي ويوفر بديلاً أخضر للبناء.
مشروع شركة bioMASON الأمريكية طورت هذه التقنية، وتمكنت من إنتاج طوب بيولوجي دون الحاجة إلى الأفران الصناعية. ما يميز هذا الطوب أنه لا يتطلب طاقة كبيرة في تصنيعه، ويمكن تصنيعه في أي بيئة تحتوي على الرمال والمياه والكائنات الدقيقة المناسبة. هذه التقنية يمكن أن تقلل من انبعاثات صناعة الطوب بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالأساليب التقليدية. يُستخدم الطوب البيولوجي اليوم في بعض المشاريع الصغيرة، ولكن من المتوقع أن يصبح جزءًا أساسيًا من صناعة البناء في المستقبل القريب، خاصة في المناطق التي تحتاج إلى حلول بناء سريعة ومستدامة.
الهياكل المتكيفة بيولوجيًا مع البيئة
في العادة، يتم تصميم المباني وفقًا لمعايير ثابتة دون القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية، مما يجعلها تعتمد بشكل كبير على أنظمة التبريد والتدفئة الاصطناعية، مما يزيد من استهلاك الطاقة. لكن ماذا لو تمكنت المباني من التصرف مثل الكائنات الحية، بحيث تعدل شكلها وخصائصها بناءً على التغيرات المناخية؟ هذا هو المفهوم الذي تقوم عليه الهياكل المتكيفة بيولوجيًا، التي تستجيب للعوامل البيئية بطريقة طبيعية دون الحاجة إلى تدخل بشري أو أنظمة ميكانيكية معقدة.
كان ولا زال أحد أروع الأمثلة على هذه التكنولوجيا هو برج البحر (Al Bahar Towers) في أبوظبي، والذي يتميز بواجهة ديناميكية متحركة مستوحاة من المشربية الإسلامية التقليدية. هذه الواجهة مصممة لتنفتح وتنغلق تلقائيًا استجابةً لشدة أشعة الشمس، مما يقلل من كمية الحرارة التي تدخل إلى المبنى، ويخفض الحاجة إلى تشغيل مكيفات الهواء بنسبة تصل إلى 50%. الفكرة تعتمد على استخدام مواد ذكية وهياكل متغيرة الشكل، وهو ما يقلل من البصمة الكربونية للمباني، ويعزز استدامتها.
تطبيقات هذه الفكرة لا تقتصر فقط على الواجهات، بل تمتد إلى استخدام مواد يمكنها تغيير شفافيتها وفقًا للضوء، أو جدران تحتوي على ألياف حيوية يمكنها التمدد والتقلص للتحكم في درجة الحرارة الداخلية. ومع استمرار الأبحاث، من المحتمل أن تصبح هذه التكنولوجيا معيارًا في تصميم المباني المستقبلية الذكية.
التحديات أمام تطبيق الهندسة الحيوية في البناء
التكلفة المرتفعة: هل الفوائد تستحق الاستثمار؟
مثل معظم التقنيات الناشئة، تعد الهندسة الحيوية في البناء حاليًا أكثر تكلفة من الأساليب التقليدية. فالخرسانة ذاتية الإصلاح، والطوب البيولوجي، والهياكل المتكيفة تتطلب عمليات تصنيع معقدة، ومواد متطورة لم يتم إنتاجها على نطاق واسع بعد. على سبيل المثال، الخرسانة البيولوجية تكلف حوالي 25-50% أكثر من الخرسانة التقليدية، مما يجعل استخدامها محدودًا في المشاريع التجريبية فقط.
مع ذلك، فإن التكاليف العالية في البداية يمكن أن تعوَّض على المدى الطويل، حيث إن هذه المواد تتطلب صيانة أقل، وتقلل من الحاجة إلى عمليات الإصلاح المكلفة. بالإضافة إلى ذلك، مع زيادة البحث والتطوير، وتوسع الإنتاج، من المتوقع أن تنخفض التكاليف تدريجيًا تمامًا كما حدث مع تقنيات البناء الأخرى مثل الخرسانة مسبقة الصب والطباعة ثلاثية الأبعاد. كما أن الاستثمارات الحكومية والخاصة في تقنيات البناء المستدامة يمكن أن تسرع من هذا التحول، مما يجعل هذه المواد متاحة بأسعار تنافسية قريبًا.
التشريعات والمعايير: القوانين التقليدية تُبطئ التقدم
على الرغم من الإمكانات الهائلة التي تقدمها الهندسة الحيوية، إلا أن أنظمة البناء الحالية لم تواكب هذا التطور بعد. معظم القوانين واللوائح التنظيمية تعتمد على مواد البناء التقليدية مثل الخرسانة المسلحة والطوب القياسي، مما يجعل من الصعب إدراج مواد البناء الحيوية في المواصفات الهندسية المعتمدة. على سبيل المثال، لم يتم بعد تطوير معايير دولية واضحة لاختبار وتحليل متانة المواد البيولوجية، مما يجعل بعض المهندسين والمطورين العقاريين مترددين في تبنيها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود بيانات طويلة الأمد حول أداء هذه المواد في البيئات المختلفة يمثل تحديًا آخر. إذ يتطلب اعتماد هذه التقنيات سنوات من الاختبارات والبحوث لضمان قدرتها على تحمل الظروف القاسية مثل الزلازل والرطوبة العالية. ومع ذلك، بدأت بعض الدول مثل هولندا وألمانيا في إدخال لوائح تجريبية لدعم استخدام الخرسانة البيولوجية والطوب المستدام في بعض مشاريع البناء، مما قد يمهد الطريق لاعتماد أوسع في المستقبل.
التقبل المجتمعي: هل المستثمرون مستعدون للمجازفة؟
أي تقنية جديدة تواجه دائمًا مقاومة عند إدخالها إلى السوق، والهندسة الحيوية ليست استثناءً. العديد من المستثمرين والمطورين العقاريين ما زالوا حذرين بشأن تطبيق هذه التقنيات نظرًا لحداثتها وعدم وجود سجل طويل من الاستخدام العملي. فهم بحاجة إلى إثبات قوي بأن هذه المواد ليست فقط مستدامة، بل أيضًا اقتصادية وقابلة للتطبيق في البيئات المختلفة.
علاوة على ذلك، هناك تحدٍ نفسي وثقافي مرتبط بالمباني المصنوعة من مواد بيولوجية. فعلى سبيل المثال، قد يتردد بعض العملاء في العيش أو العمل داخل مبانٍ تم إنشاؤها باستخدام كائنات حية أو بكتيريا، حتى وإن كانت آمنة تمامًا. ولكن كما حدث مع الابتكارات السابقة مثل الطاقة الشمسية وتقنيات العزل الذكي، فإن التوعية المجتمعية والتجارب الناجحة ستلعب دورًا كبيرًا في كسر هذا الحاجز النفسي، مما سيجعل الهندسة الحيوية في البناء مقبولة بشكل أكبر خلال السنوات القادمة.
هل التحديات تعني استحالة التطبيق؟
رغم أن الهندسة الحيوية في البناء تواجه تحديات رئيسية، إلا أن هذه العوائق ليست مستحيلة التغلب عليها. التكنولوجيا تتقدم بسرعة، والتكلفة ستنخفض مع مرور الوقت، والقوانين ستتطور لتواكب هذه الابتكارات. كما أن هناك دعمًا متزايدًا من الحكومات والمؤسسات البيئية لتطوير تقنيات بناء أكثر استدامة، مما قد يُسرّع من تبني هذه المواد على نطاق أوسع.
هل الهندسة الحيوية مستقبل البناء؟
مع تصاعد الأزمات البيئية وزيادة الحاجة إلى حلول مستدامة، تتجه الأنظار نحو الهندسة الحيوية كعنصر رئيسي في بناء المدن الذكية المستقبلية. فبدلاً من الاعتماد على الخرسانة والحديد التقليديين، يمكن أن توفر المواد البيولوجية والهياكل القابلة للتكيف حلولًا أكثر كفاءة، مما يتيح تصميم مبانٍ لا تستهلك طاقة مفرطة، بل تتفاعل مع البيئة بطريقة ديناميكية. على سبيل المثال، يمكن استخدام جدران حية مكونة من نباتات ذاتية النمو لتعزيز العزل الحراري وخفض الانبعاثات، بينما تعمل المواد الذكية على إصلاح التشققات تلقائيًا، مما يقلل من تكاليف الصيانة والبصمة الكربونية للبناء.
وفقًا لتقرير صادر عن MIT Media Lab، يمكن للهندسة الحيوية أن تغير مستقبل العمارة من خلال تطوير أنظمة بناء ديناميكية قادرة على التكيف مع الظروف المناخية المختلفة، مثل المباني التي يمكنها تنظيم درجة حرارتها بناءً على الطقس الخارجي، أو الواجهات التي تتحول تلقائيًا لتوفير الظل أو تحسين دخول الضوء الطبيعي. التقرير يشير أيضًا إلى إمكانية استخدام المواد البيولوجية في إنشاء هياكل مستدامة بالكامل، قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون والمساهمة في تحقيق بيئة حضرية أكثر توازناً مع الطبيعة. هذه التقنيات يمكن أن تجعل المدن أكثر أمانًا وكفاءة في استهلاك الطاقة، مما يحد من الأضرار الناجمة عن التغيرات المناخية المتسارعة.
في المستقبل، قد تصبح المباني أكثر استقلالية وقابلية للصيانة الذاتية، حيث تُزرع بعض مكوناتها حرفيًا مثل الكائنات الحية، ما يقلل الحاجة إلى الهدم وإعادة البناء الدائم. يشير تقرير معمل MIT Media Lab، التابع لمعهد معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نحو أنَّ تقنيات الهندسة الحيوية يمكن أن تعيد تشكيل المدن بالكامل، مما يتيح لنا تصور بيئات حضرية تنمو وتتجدد مثل النظم البيئية الطبيعية. وبذلك، فإن مفهوم العمارة لم يعد يقتصر على مجرد إنشاء هياكل صلبة، بل تحول إلى كائنات عمرانية متطورة تستجيب وتتطور باستمرار.
عصر جديد للبناء قادم
لم يعد الحديث عن المباني الحية مجرد خيال علمي، بل أصبح واقعًا علميًا يجري تطويره في مختبرات وجامعات العالم. هذه التكنولوجيا لا توفر فقط حلولًا عملية للصيانة والتكاليف، ولكنها أيضًا تضع أسسًا جديدة للبناء المستدام والذكي.
إذا كنت مستثمرًا، مهندسًا معماريًا، أو مطورًا عقاريًا، فقد يكون الوقت مناسبًا للبدء في استكشاف هذه الابتكارات وإيجاد طرق للاستفادة منها في مشاريعك القادمة.
ما رأيك في الهندسة الحيوية في البناء؟ هل تراها مستقبلًا حتميًا أم مجرد فكرة تجريبية؟