Home تقارير مدن الإسفنج: هل هي هندسة معمارية مقاومة للفيضانات في المستقبل؟

مدن الإسفنج: هل هي هندسة معمارية مقاومة للفيضانات في المستقبل؟

by admin

أبنية – خاص

مع تزايد الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ، أصبحت الفيضانات واحدة من أكثر التهديدات التي تواجه المدن الحديثة. يعتمد التخطيط التقليدي للمدن على أنظمة الصرف الصناعي والقنوات الخرسانية، والتي غالبًا ما تكون غير قادرة على التعامل مع كميات المياه الغزيرة الناجمة عن الأمطار المفاجئة أو ارتفاع مستوى سطح البحر. ومع ذلك، ظهر نهج جديد في الهندسة المعمارية الحضرية، يُعرف باسم “مدينة الإسفنج”، كحل مستدام لمواجهة هذه التحديات.

مدن الإسفنج هي مناطق حضرية مصممة لامتصاص مياه الأمطار، وتخزينها، وإطلاقها ببطء لتجنب الفيضانات، مع تحسين جودة المياه الجوفية وتعزيز المساحات الخضراء. هذه الفكرة ليست مجرد مفهوم نظري، بل يتم تنفيذها بالفعل في العديد من المدن حول العالم، مع نتائج مشجعة.

ماذا تعني مدينة الإسفنج؟

تم تقديم مفهوم “مدينة الإسفنج” لأول مرة من قبل المخطط الحضري الصيني كونجيان يو، الذي اقترح تطوير مدن قادرة على استيعاب وإدارة مياه الأمطار بنفس الطريقة التي يعمل بها الإسفنج الطبيعي. بدلاً من السماح للمياه بالجريان السطحي بسرعة عبر الأرصفة والقنوات، تعتمد مدن الإسفنج على البنية التحتية الخضراء، مثل الحدائق المائية، والأسطح الخضراء، والأرصفة النفاذة، لتقليل تأثير الفيضانات وإعادة استخدام المياه المتجمعة.

تعتمد هذه المدن على ثلاثة مبادئ رئيسية:

  • الامتصاص – استخدام المساحات الخضراء والتربة النفاذة لامتصاص مياه الأمطار.
  • التخزين – إنشاء بحيرات اصطناعية، وحدائق مائية، وخزانات تحت الأرض لتخزين المياه الزائدة.
  • الإطلاق البطيء – إعادة توزيع المياه إلى الأنهار أو إعادة استخدامها في ري المساحات الخضراء ومياه الشرب المعالجة.

نماذج واقعية لمدن الإسفنج

ووهان- الصين

كانت الصين من أوائل الدول التي تبنت مفهوم مدن الإسفنج كجزء من استراتيجيتها البيئية الحضرية. تُعتبر ووهان، إحدى أكبر المدن في الصين، نموذجًا لهذا النهج. تم تطوير مساحات خضراء واسعة، وبحيرات اصطناعية، وشبكات من الحدائق المائية التي تمتص مياه الأمطار وتقلل من خطر الفيضانات الموسمية.

وفقًا لتقرير البنك الدولي، فقد أدى تنفيذ البنية التحتية للإسفنج في “ووهان” إلى تقليل الفيضانات بنسبة “70% ” في بعض المناطق، كما حسّن من جودة المياه في المدينة.

كوبنهاغن- الدنمارك

تعاني العاصمة الدنماركية كوبنهاغن من فيضانات متكررة نتيجة العواصف المفاجئة، مما دفع السلطات إلى تبني استراتيجية مدينة الإسفنج. قامت المدينة بتطوير “حدائق المطر”، وهي مساحات خضراء تعمل كمناطق تجميع طبيعية لمياه الأمطار، مما يقلل من الضغط على أنظمة الصرف التقليدية.

كما تم تصميم ساحة إنغهاف بلادس “Enghave Plads”  في كوبنهاغن بحيث يمكنها احتواء 22,600 متر مكعب من مياه الأمطار خلال العواصف الشديدة، مما يحمي المناطق المحيطة بها من الفيضانات.

 روتردام- هولندا

باعتبارها مدينة منخفضة عن مستوى سطح البحر، فإن روتردام مهددة بالغمر الدائم. لذلك، بدأت المدينة بتنفيذ استراتيجيات مدن الإسفنج من خلال بناء الساحات المائية (Water Squares)، وهي مساحات عامة تتحول إلى برك مائية خلال الأمطار الغزيرة، ثم تعود إلى ساحات رياضية وترفيهية بعد جفاف المياه.

إحدى أبرز هذه الساحات هي “بيلجيربلين”Benthemplein ، التي صُممت لاستيعاب كميات ضخمة من مياه الأمطار، مما يخفف من العبء على شبكات الصرف الصحي التقليدية.

فوائد مدن الإسفنج

تتمثل إحدى الفوائد الرئيسية لمدن الإسفنج في تقليل مخاطر الفيضانات، حيث تعتمد هذه المدن على الامتصاص التدريجي لمياه الأمطار بدلًا من تصريفها بسرعة عبر أنظمة الصرف التقليدية. من خلال استخدام الحدائق المائية والأسطح النفاذة، يتم احتجاز المياه الزائدة وإطلاقها تدريجيًا، مما يقلل من احتمالية حدوث الفيضانات المفاجئة التي قد تتسبب في أضرار جسيمة للبنية التحتية والممتلكات. هذه الطريقة الطبيعية في إدارة المياه تقلل أيضًا من الضغط على شبكات الصرف الصحي، مما يجعل المدن أكثر قدرة على مواجهة التغيرات المناخية.

إلى جانب دورها في السيطرة على الفيضانات، تحسّن مدن الإسفنج جودة المياه من خلال تصفية الملوثات قبل وصولها إلى المياه الجوفية أو الأنهار. تعتمد هذه المدن على النباتات والتربة في تنقية المياه، مما يقلل من التلوث الكيميائي والبكتيري. كما أن زيادة المساحات الخضراء في هذه المدن تساهم في تحسين جودة الهواء، وتعزز التنوع البيولوجي، مما يخلق بيئة حضرية أكثر صحة وراحة للسكان. إضافةً إلى ذلك، تؤدي هذه المساحات إلى تعزيز جمال المدن، مما ينعكس إيجابيًا على الصحة النفسية والرفاهية العامة للمجتمعات.

ميزة أخرى مهمة لمدن الإسفنج هي خفض درجات الحرارة، حيث تلعب الأسطح الخضراء والمسطحات المائية دورًا كبيرًا في تبريد الأجواء وتقليل تأثير “جزيرة الحرارة الحضرية”، الناتج عن التوسع في البناء الإسمنتي والمعدني. تعمل هذه الأنظمة الطبيعية على امتصاص أشعة الشمس ومنع تراكم الحرارة في المناطق الحضرية، مما يقلل من الحاجة إلى مكيفات الهواء ويخفض استهلاك الطاقة. إضافةً إلى ذلك، تساهم هذه المدن في الإدارة المستدامة للمياه، حيث يتم تخزين المياه الزائدة وإعادة استخدامها في ري الحدائق أو إعادة تعبئة المياه الجوفية، مما يضمن استدامة الموارد المائية في ظل التغيرات المناخية والجفاف المتزايد.

التحديات التي تواجه مدن الإسفنج

 على الرغم من الفوائد العديدة التي تقدمها مدن الإسفنج، إلا أن تنفيذها يواجه تحديات كبيرة، أبرزها التكلفة العالية. تحتاج هذه المشروعات إلى استثمارات ضخمة لإعادة تصميم البنية التحتية الحضرية، حيث يتطلب إنشاء الحدائق المائية، والأسطح النفاذة، وأنظمة تخزين المياه تقنيات متقدمة وتمويلًا مستدامًا. كما أن التكيف مع المدن القديمة يمثل عقبة أخرى، إذ يصعب دمج البنية التحتية الإسفنجية في المناطق التي بُنيت وفق نماذج تقليدية، ما يستلزم إعادة تصميم شاملة وتعديل المرافق القائمة، وهو ما قد يكون مكلفًا ومعقدًا من الناحية الهندسية.

إضافةً إلى ذلك، تتأثر فعالية مدن الإسفنج بالعوامل المناخية، حيث قد تكون بعض المناطق أكثر عرضة للفيضانات الشديدة أو التغيرات المناخية القاسية، مما يجعل البنية التحتية الإسفنجية غير كافية بمفردها لمنع الكوارث الطبيعية. في بعض الحالات، قد تتجاوز كميات المياه المتدفقة قدرة الأنظمة على الاستيعاب، مما يتطلب حلولًا تكميلية مثل بناء سدود أو قنوات تصريف إضافية. ورغم هذه التحديات، فإن التطور المستمر في تقنيات التخطيط العمراني قد يساهم في تجاوز هذه العقبات وجعل مدن الإسفنج خيارًا أكثر شيوعًا في المستقبل.

مستقبل مدن الإسفنج

مع تزايد تأثيرات التغير المناخي، يتوقع الخبراء أن تصبح مدن الإسفنج نهجًا أساسيًا في تصميم المدن الحديثة. بالفعل، تبنت بعض الدول مثل الصين وهولندا وألمانيا والدنمارك سياسات جديدة لإدماج البنية التحتية الإسفنجية في تخطيط المدن المستقبلية.

بحلول عام 2030، تخطط الصين لتحويل 80% من المناطق الحضرية إلى مدن إسفنجية، وفقًا لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية والريفية. من المتوقع أيضًا أن تشهد العديد من المدن الأوروبية تحولًا مشابهًا، حيث يتم تنفيذ مشاريع مثل الحدائق العائمة والمناطق المرنة للتكيف مع التغيرات المناخية.

تُعد مدن الإسفنج خطوة ثورية نحو مستقبل حضري أكثر استدامة، حيث تتيح لنا التكيف مع الفيضانات ومخاطر التغير المناخي بطرق مبتكرة وصديقة للبيئة. وبينما لا تزال هناك تحديات أمام تنفيذ هذا النموذج على نطاق واسع، فإن الفوائد البيئية والاقتصادية والاجتماعية تجعله أحد أكثر الحلول الواعدة لإدارة المياه الحضرية.

مع استمرار التطورات في الهندسة البيئية والتخطيط العمراني، قد نشهد قريبًا تحولات جذرية في الطريقة التي تتعامل بها المدن مع الأمطار والفيضانات. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستصبح مدن الإسفنج المعيار الجديد لتصميم المدن في المستقبل.

You may also like

اترك تعليقك :