أبنية – خاص
يرى ابن خلدون أن “المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غِرَّة للبيات، وسهُلت على عدوها”. لكن هذا المفهوم في العصر الحديث ومع تطور النظم والدفاعات، صار يتلاشى ليركِّز على أهمية المدينة في احتضان أهلها وقاطنيها، وتوفير مظاهر التمدُّن التي يطمح لها الناس؛ لتسير أمورهم وتكون على خير ما يُرام.
والعمارة كانت دائمًا مرآة تعكس تطور المدن والحضارات على مدار التاريخ، فهي ليست مجرد بناءات مادية، بل تجسد هوية وثقافة الشعوب التي أنشأتها. من الأهرامات المصرية التي تعكس عظمة الحضارة الفرعونية إلى الكاتدرائيات القوطية في أوروبا التي تعبر عن الروحانية والقدرة الفنية في العصور الوسطى، وصولاً إلى ناطحات السحاب الحديثة التي تمثل الابتكار والتقدم التكنولوجي في عصرنا الحالي. كل حضارة تركت بصمتها المميزة على العمارة، مما يجعلها شاهدًا حيًا على تاريخ البشرية وتطورها الاجتماعي والثقافي.
ولطالما ارتبطت العمارة بالمدنية والتحضر، فهي تعكس مدى تقدم المجتمعات وقدرتها على التنظيم والتخطيط الحضري. في المدن القديمة، كانت العمارة تُستخدم كوسيلة لإظهار القوة والثروة من خلال بناء القصور والمعابد الضخمة. وفي العصر الحديث، أصبحت العمارة تعبر عن الابتكار والاستدامة، حيث تتجه المدن إلى تبني التصاميم الذكية والمباني الصديقة للبيئة؛ فتحوَّل مفهوم العمارة من مجرَّد فن أو علم للبناء نحو وسيلة تعزيز جودة الحياة، وتحقيق التوازن بين التراث والحداثة في البيئة الحضرية.
ظهور المدن الذكية
ظهرت مفاهيم “المدينة الذكية “Smart City” و”المبنى الذكي” في الثمانينيات، وتطورت من التركيز على تكنولوجيا المعلومات إلى تحسين جودة الحياة والاستدامة. وبدأت الأدبيات في نهاية الثمانينيات بالتركيز على الابتكار الرقمي، بينما انتقلت في نهاية التسعينيات إلى دور التفاعلات الاجتماعية والاستدامة. وتُستخدم نفس المؤشرات لتقييم المدن الذكية والمباني الذكية، مثل النقل والصحة والسلامة وتقليل استهلاك الموارد. لكن الظهور الأبرز جاء خلال العقد الماضي، وذلك بفضل مبادرة أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في عام 2005. وقد قامت شركة سيسكو Cisco، الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والشبكات، بدور كبير في تعزيز هذا المفهوم، مستفيدة من التطورات التكنولوجية لجعل المدن أكثر استدامة. ومنذ ذلك الوقت، بدأ مصطلح “المدن الذكية” يظهر بقوة، حيث يهدف إلى تشجيع وتطوير ممارسات التصميم المستدام.
مفهوم المدن الذكية
وكمفهوم مبدئي، فإنَّ المدن الذكية تلك تعتمد على تقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة، والابتكارات التكنولوجية لتحسين جودة حياة سكانها وتعزيز كفاءة الخدمات الحكومية والبنية التحتية. وتتميز هذه المدن باستخدام متقدم للبيانات والتحليلات والتكنولوجيا من أجل تحسين تجربة العيش، وزيادة الاستدامة، وتعزيز الفعالية في مختلف جوانب الحياة الحضرية. إذ إنَّ واقع هذه المدن يختلف بالكليَّة أو بشكل واسع النطاق عن المدينة التقليدية المُتعارف عليها، والتي عاشت عصورًا من الحضارات؛ ليتبلور من هنا مدخلنا في هذا المقال أن مصطلح التمدُّن “Civilization” سيختلف معناه بشكل جوهري أصيل، ولا سيَّما أننا نتحدث ومن خلال ما سيتم استعراضه، حول إمكانات وآليات تجعل من الاختلاف الجوهري في المعنى المفاهيمي قبل المبنى الظاهري الذي نراهُ يتجسَّد في إطار واقع معاصر نشهدُه.
فهم المدن الذكية
إنَّ التعامل مع مصطلح المدن الذكية لن يكون فقط مجرد استعراض آليات صمَّاء كتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أو الاستفادة من التحولات الرقمية، بل إنَّ الأمر بشكل كبير يتعدَّى هذه الحدود. فهذه المُدن ستوفِّر لقاطينيها وسكَّانها عددًا من الظواهر المُحسَّنة “Improved”، التي تأتي في مقدِّمتها تحسين جودة الحياة. هذا التحسين لا يكون فقط مجموعة متنوعة من التقنيات والرفاهيات، بل شكلاً لتقديم حلول متصلة للسكان، من خلال “توفُّر مناطق حضرية وتنقلات أقصر، وأنظمة مواصلات يسيرة الوصول، وتقليل استخدام الطاقة الكهرباء، وشوارع أكثر أمانًا، ومساحات خضراء، وهواء أنظف، وفرص اقتصادية كثيرة، فيصب في تحسين جودة حياة هؤلاء السكان بدرجة أكبر، مما هم عليه داخل منظومة المدينة التقليدية.
يظهر مما سبق سلسلة مُستدامة من العمليات والخدمات التي تُقدَّم بشكل مغاير تمامًا عما هو معهود حاليًا، لتنتقل بشكل مستمر نحو نمط مؤثِّر ومفيد، بحسب نظرة الآملين في هذه المدن، التي ترى إمكانية أن تساعد هذه العمليات صناع القرار في تحديد الأولويات وتطوير استراتيجيات لتحقيق التنمية الذكية.
دور العمارة المتقدمة في إنشاء المدن الذكية
العمارة المتقدمة مجال مبتكر يسعى إلى دمج أحدث التقنيات والتصميمات المعمارية لتلبية احتياجات العصر الحديث وتحقيق أهداف الاستدامة. وتعتمد هذه العمارة على تقنيات حديثة مثل: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء، والمواد الذكية، التي تسهم في تحسين أداء المباني وكفاءتها. وتستخدم العمارة المتقدمة أنظمة ذكية لمراقبة وإدارة استهلاك الطاقة، وتحسين جودة الهواء، وتسهيل التحكم في المناخ الداخلي، مما يؤدي إلى تقليل البصمة الكربونية للمباني وتعزيز الاستدامة البيئية.
أهمية تصميم المباني الذكية
فيما يتعلق بالاستدامة، تسهم العمارة المتقدمة في تقليل الأثر البيئي من خلال استخدام مواد بناء قابلة لإعادة التدوير، وتحسين كفاءة الطاقة عبر تصميمات توفر العزل الحراري الجيد، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة. وتساعد التقنيات الحديثة في تحقيق أداء عالٍ للمباني من خلال تقديم حلول مبتكرة مثل الألواح الشمسية المدمجة، وأنظمة تجميع مياه الأمطار، والتحكم الذكي في الإضاءة والتكييف. وبفضل هذه التحسينات، توفر العمارة المتقدمة بيئات معيشية صحية ومستدامة تسهم في الحفاظ على الموارد الطبيعية وتقليل الانبعاثات الضارة.
مما سبق نجد أنَّ المجتمعات الذكية ستكون في إطار التمازج والتوأمة مع العمارة المتقدِّمة – وإن جاز التعبير أن نسميها العمارة الذكية – التي ستوفِّر عملية من الانتقال نحو تلبية احتياجات حالية دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية احتياجاتهم الخاصة، ويتحقق التوازن الأشمل بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.