أبنية – خاص
تتأصل علاقة الإنسان بالطبيعة في جوهر وجوده، ودومًا ما تُفسّر هذه الجملة من واضعي علم الاجتماع البيئي، بأنَّ البيئات المتنوعة تشكِّل مصدر إلهام وموطنًا للعيش، فتسهم في تشكيل هوية المجتمعات وثقافاتها، مما يعكس كيف يتكيف الأفراد مع محيطهم الطبيعي.
يتفاعل أبناء المجتمعات بشكل متنوع مع البنايات التي تحاكي الطبيعة، مما يعكس رغبتهم في خلق بيئات معيشية متوازنة ومتناغمة. ومن خلال استخدام عناصر التصميم المستوحاة من الطبيعة أو ما يمكن تسميته بـ “Biophilic Architecture”، مثل النباتات والضوء الطبيعي، يتمكن الأفراد من تعزيز شعورهم بالراحة والانتماء في فضاءاتهم اليومية. كما تسهم هذه التصاميم في تحسين جودة الحياة، من خلال توفير مساحات خضراء ومسارات مريحة، مما يشجع على التفاعل الاجتماعي والنشاط البدني. وهكذا، تحول البنايات من مجرد هياكل مادية إلى أسلوب حياة يسعى إلى دمج الجمال الطبيعي مع الاحتياجات الحضرية. ولأن صناعة البناء والهندسة المعمارية صارت تهتم في عالمنا الحديث بالاستدامة البيئية، بات من الواجب على هذه الصناعة أن تنتقل نحو تصميم أكثر انسجامًا مع العالم الطبيعي، وهو ما يُعرف بالتصميم البيوفيلي. ويُعبِّر مصطلح البيوفيليا عن الارتباط العميق الذي يربط الإنسان بالعالم الطبيعي والكائنات الحية من حوله. ويعود أصل الكلمة إلى اللاتينية، حيث “بيو” تعني الحياة و”فيليا” تشير إلى الحب أو الميل. ويُنظر إلى البيوفيليا على أنها غريزة فطرية تدفع الإنسان للتفاعل مع البيئة الطبيعية، بحثًا عن اتصال حقيقي معها.
التصميم البيوفيلي
يُعدُّ التصميم البيوفيلي نهجًا معماريًا يركِّز على دمج عناصر الطبيعة في تصميم المباني والمساحات الداخلية. ويسعى هذا النهج إلى تحقيق توازن بين متطلبات الإنسان والعناصر البيئية من خلال استخدام الضوء الطبيعي، والهواء النقي، والماء، والمشاهد الطبيعية. ويهدف التصميم البيوفيلي إلى خلق بيئات تعزز من رفاهية الأفراد وصحتهم النفسية والجسدية، مع التركيز على كيفية تأثير البيئة على السعادة والتوازن النفسي. ومن خلال تطبيق مبادئ مثل استخدام المواد الطبيعية وتوفير الإضاءة والتهوية المناسبة، يسعى التصميم البيوفيلي إلى تحقيق استدامة تعود بالنفع على المستخدمين والبيئة.
عناصر التصميم البيوفيلي
إنَّ النظرة التاريخية للتصميمات البيوفيلية، تحدد عناصره. فبدءًا من البابليّين، وهم أول من جسّدوها في عمارة حدائق بابل المعلّقة، مرورًا بالفترات التاريخية المتلاحقة، خاصة في العصور الإسلامية وما بعدها حتى العصر الحديث، نجد أن التصميم البيوفيلي مجموعة من الميزات التي تُدمج في المساحات المعمارية بهدف محاكاة البيئة الطبيعية، وتعزيز الاتصال بين شاغلي المباني والطبيعة. وتُسهم هذه العناصر في عدد من المزايا المستدامة كتحسين الرفاهية، وزيادة الإنتاجية، وتعزيز الرضا العام، وجميعها تنتج من الاندماج مع الطبيعة.
الإضاءة الطبيعية: تُعدُّ من العناصر الأساسية في التصميم البيوفيلي، حيث تُركِّز على دمج الضوء الطبيعي ومناظر الطبيعة في المساحات الداخلية. ويسهم هذا النوع من الإضاءة في تحسين الراحة البصرية والنفسية، مما يؤدي إلى زيادة الأداء والإنتاجية، ويساعد في توفير الطاقة وتعزيز الاتصال بالعالم الخارجي.
المساحات الداخلية الخضراء: يتمثل هذا العنصر في إدخال النباتات أو الحدائق العمودية داخل المساحات المغلقة، مما يُضيف لمسة من الطبيعة إلى بيئة الإنسان. بالإضافة إلى تحسين جودة الهواء، تُسهم هذه المساحات في تقليل مستويات التوتر وتعزيز الإنتاجية.
المواد الطبيعية: يُعدُّ استخدام مواد طبيعية مثل الخشب والحجر والخيزران، جزءًا مهمًا من التصميم البيوفيلي. إذ تُحسن هذه المواد من المظهر الجمالي للمساحات وتُعزز التواصل مع البيئة الطبيعية، بالإضافة إلى فوائدها في تعزيز الاستدامة.
العناصر المائية: يمكن تضمين نوافير أو برك في المساحات الخارجية، حيث تضيف هذه العناصر بعدًا جماليًا ومرئيًا، وتقلل التوتر وتعزّز الإحساس بالهدوء.
نماذج بيوفيلية معاصرة
فندق “ذا داتاي لانغكاوي” و”بوهان“
يشهد عالم الضيافة ثورةً حقيقيةً، حيث تتجه أنظار المصممين نحو الطبيعة كمنبع للإلهام. فالفنادق الحديثة تتبنى مفهومًا جديدًا يجمع بين أناقة التصميم وجمال الطبيعة، بهدف خلق تجربة إقامة فريدة تربط الإنسان ببيئته. هذا الاتجاه يتجاوز الجانب الجمالي ليشمل تعزيز الرفاهية والاستدامة. وقد بدأت صناعة السفر في آسيا بتبني الفنادق المبتكرة والمستوحاة من الطبيعة. تشكل الفنادق الآسيوية، مثل “ذا داتاي لانغكاوي” و”بوهان” في بالي، رموزًا لهذا الاتجاه، حيث توفر تجارب طبيعية غامرة. وتعتمد هذه الفنادق نهج “لا جدران، لا أبواب”، مما يسمح للضيوف بالشعور بالاتصال مع البيئة الطبيعية. هذه التجربة تكتسب شعبية بين المسافرين الباحثين عن اتصال أعمق بالطبيعة وملاذ من الحياة الحديثة السريعة.
المقر الرئيسي لشركة بيئة في الشارقة
يمثل المقر الرئيسي لمجموعة بيئة، من تصميم زها حديد، نموذجًا مثاليًا لتطبيق التكنولوجيا المتقدمة في البناء مع التركيز على الاستدامة. ويستخدم المبنى مواد محلية وتقنيات لتحقيق كفاءة عالية في استهلاك الطاقة والوصول إلى انبعاثات صفرية، مما يجعله متوافقًا مع معايير LEED البلاتينية.
كابسارك
يجمع تصميم حرم كابسارك أو مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية في الرياض بين العمارة التقليدية في الشرق الأوسط والاستدامة. ويتميز المشروع بساحات مظللة ومساحات خضراء وتقنيات متقدمة لتوفير الطاقة، مما يعكس تبنيه لمبادئ التصميم البيوفيلي.
أبراج البحر في أبوظبي
تُعد أبراج البحر مثالاً حديثًا على مفهوم المشربية، حيث تمتاز بواجهات ديناميكية تتفاعل مع حركة الشمس لتوفير التظليل وتقليل امتصاص حرارة الشمس، مما يعزز كفاءة الطاقة ويدمج مفاهيم التصميم الحيوي.
جامعة قطر – مبنى The Edge
يركز تصميم مبنى The Edge في الدوحة على الاستدامة، معتمدًا على مبادئ التصميم البيوفيلي. ويتميز المبنى بردهة مركزية مليئة بالنباتات الطبيعية وإضاءة طبيعية، مما يعزز جودة الهواء الداخلي ورفاهية المستخدمين، ويؤهله لشهادة LEED البلاتينية.
في السنوات الأخيرة، اكتسب التصميم المستوحى من الطبيعة زخمًا كبيرًا، حيث كانت المنتجعات الاستوائية في السابق رائدة في هذا المجال. لكن الآن، بدأ دمج هذا التصميم في الفنادق الحضرية، مما يعكس تحولًا من البيئات الاستوائية إلى المدن العالمية. فتُعتبر العمارة المستوحاة من الطبيعة جذابة من الناحية الجمالية، وتلعب دورًا حيويًا في تعزيز الاستدامة. فمن المتوقع أن يكون لارتفاع العمارة المستوحاة من الطبيعة في الفنادق تأثير عميق على صناعة السفر العالمية. فمع زيادة الوعي البيئي بين المسافرين، يرتفع الطلب على الإقامات الفاخرة المستدامة. وتقدم الفنادق التي تتبنى هذا التصميم تجارب فريدة، حيث تركِّز على الفوائد الصحية الناتجة عن الانغماس في الطبيعة.
ختامًا، تظل الطبيعة هي المصدر الأول للإلهام المستدام، حيث يمكن للمصممين تحقيق أقصى استفادة من التصاميم المعمارية البيئية من خلال محاكاة النظم الطبيعية وتكويناتها. فالتعايش مع الطبيعة لا ينبغي أن يكون مقتصرًا على الشكل الخارجي فحسب، بل يجب أن يمتد ليشمل استيعاب آلياتها المتكاملة لتحقيق بنية معمارية أكثر تنوعًا واستدامة.