أبنية – خاص
يتجه البناء الأخضر بشكل كبير كضرورة ملحّة لتحقيق مدن مستدامة تُقلل من التأثيرات السلبية على البيئة وتُحسّن جودة الحياة. تلعب تقنيات التقاط الكربون دورًا محوريًا في هذا السياق، حيث تُسهم في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتُعزز من كفاءة استخدام الموارد.
ماهية البناء الأخضر
البناء الأخضر، المعروف أيضًا بالبناء المستدام، هو ممارسة تصميم وبناء وتشغيل المباني بطرق تُقلل من استهلاك الموارد وتُقلل من التأثيرات البيئية السلبية طوال دورة حياة المبنى. يشمل ذلك استخدام مواد صديقة للبيئة، تحسين كفاءة استخدام الطاقة والمياه، والحد من النفايات.
دور تقنيات التقاط الكربون في البناء الأخضر
تُعد تقنيات التقاط الكربون من أبرز الأدوات الحديثة التي بدأت تندمج في مسار البناء الأخضر. تقوم هذه التقنيات على استخلاص ثاني أكسيد الكربون من مصادر انبعاثه كالمصانع، أو حتى من الهواء الجوي، ثم تخزينه في باطن الأرض أو إعادة استخدامه في صناعات مفيدة. في قطاع البناء، يُشكل دمج هذه التقنيات خطوة حاسمة لتقليل البصمة الكربونية، التي تُعد من بين الأعلى عالميًا. فالتحول إلى أنظمة إنشاء تراعي تقليل الانبعاثات لم يعد رفاهية، بل ضرورة لمستقبل أكثر استدامة.
واحدة من أهم تطبيقات هذه التقنية هي إنتاج مواد بناء منخفضة الكربون، وعلى رأسها الأسمنت والخرسانة. يُسهم إنتاج الأسمنت وحده بحوالي 7-8% من الانبعاثات الكربونية العالمية. وقد بدأت الشركات العالمية استخدام الكتلة الحيوية كوقود بديل، مع إدخال المخلفات الصناعية بدلًا من المواد الخام البكر، مما ساهم في تقليل الانبعاثات بنسبة تصل إلى 20% في بعض المنشآت. كما أن اعتماد أنظمة ذكية لإدارة الطاقة داخل مصانع البناء يمكن أن يُوفر ما يقارب 30% من استهلاك الكهرباء والوقود.
في موازاة ذلك، بدأت بعض المدن المتقدمة بتطبيق تقنيات احتجاز الكربون داخل المباني نفسها. فعلى سبيل المثال، يعمل مشروع “Tokyo Cross Park Vision” على دمج تقنيات احتجاز الكربون داخل واجهات المباني ومرافقها، مما يسمح للمبنى بأن يصبح بيئة ماصة للكربون بدلًا من كونه مصدرًا له. تُستخدم هنا مواد قادرة على التفاعل مع الهواء الخارجي وامتصاص ثاني أكسيد الكربون، في عملية تُعرف بالتقاط الكربون السلبي.
ولا يقتصر الأمر على الجانب البيئي فقط، بل يمتد إلى أبعاد اقتصادية طويلة المدى. فعندما يُقلل المطورون العقاريون من البصمة الكربونية لمشروعاتهم، فإنهم يفتحون الباب أمام التمويلات الخضراء، ويضمنون توافق مشاريعهم مع معايير البناء المستقبلية الصارمة. كما تسهم هذه الخطوة في تحسين سمعة الشركات في السوق، ورفع قيمة أصولها العقارية، خاصة مع ازدياد وعي المستهلكين بمسائل البيئة والاستدامة.
فوائد تقنيات التقاط الكربون في تطوير مدن مستدامة
تُشكل تقنيات التقاط الكربون أحد أهم أعمدة الرؤية المستقبلية للمدن المستدامة، إذ تُسهم في إعادة توجيه النمو الحضري نحو معايير بيئية أكثر صرامة. أولى هذه الفوائد تتجلى في تحسين جودة الهواء، خاصة في المدن الصناعية الكبرى. فكل طن من الكربون يتم احتجازه يُقلل من تركز الجزيئات السامة في الهواء، ما ينعكس إيجابًا على صحة السكان، ويقلل من أمراض الجهاز التنفسي والأمراض المرتبطة بالتلوث.
وفي جانب آخر، تلعب هذه التقنيات دورًا جوهريًا في الحفاظ على موارد البيئة. حيث يُمكن إعادة تدوير الكربون المحتجز لاستخدامه في صناعة مواد بناء جديدة مثل الطوب الكربوني أو الخرسانة الممتصة للكربون، مما يُقلل الحاجة إلى المواد الخام ويحد من استنزاف الموارد الطبيعية. وتُعد هذه الخطوة من المحاور الرئيسية في تطبيق مفاهيم الاقتصاد الدائري داخل قطاع الإنشاءات.
كذلك، تُعزز هذه الابتكارات من جاذبية السوق العقاري. فالمباني التي تُصنف بأنها محايدة أو منخفضة الكربون تُحقق تقييمًا أعلى في مؤشرات الأداء العقاري، وتجذب شرائح واسعة من المستثمرين والمؤسسات الباحثة عن محفظات عقارية مسؤولة بيئيًا. هذه الأصول تصبح أكثر تنافسية عند التأجير أو البيع، وتوفر للملاك مزايا ضريبية أو تمويلية في بعض الدول.
وفي النهاية، تُساعد هذه التطبيقات في خلق مدن أكثر تكيفًا مع التغيرات المناخية. فالمدن التي تدمج نظم البناء الأخضر وتقنيات احتجاز الكربون في بنيتها التحتية ستكون أقدر على امتصاص الصدمات المناخية والبيئية، كما ستكون نماذج حضرية قابلة للتكرار والتوسع في سياق النمو السكاني والاقتصادي المستقبلي.
تحديات تطبيق تقنيات التقاط الكربون في البناء
رغم المزايا البيئية الواضحة، تواجه تقنيات التقاط الكربون عددًا من التحديات الهيكلية والتقنية عند تطبيقها في قطاع البناء. أول هذه التحديات يتمثل في ارتفاع التكلفة الأولية لتطوير التكنولوجيا وتثبيتها في المصانع أو الأبنية. فالأنظمة المستخدمة في عزل، نقل وتخزين ثاني أكسيد الكربون ما تزال باهظة الثمن، مما يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة والمتوسطة تبنيها دون دعم حكومي أو استثمار مؤسسي كبير.
جانب آخر من التعقيد يكمن في الجاهزية التقنية للمشروعات المعمارية لاستيعاب هذه الابتكارات. فدمج المواد الجديدة أو أنظمة التهوية والمراقبة المرتبطة بالكربون يتطلب تعديلًا في تصميم المباني، وفي بعض الأحيان تغييرات في اللوائح التنظيمية للبناء. كما أن قلة الكوادر الهندسية المتخصصة في هذه التقنيات تُعد أحد العوائق التي تُبطئ عملية الانتشار.
ومن زاوية السياسات، تُواجه هذه التقنيات نقصًا في الحوافز الحكومية والتشريعات المحفزة. فالكثير من الدول لم تُدمج بعد مفهوم الكربون المحتجز ضمن كودات البناء الوطنية، مما يجعل المطورين غير مجبرين على الأخذ بهذه المعايير، حتى وإن كانت بيئيًا ضرورية. كما أن غياب آليات تسعير واضحة للكربون يجعل من الصعب تقييم الجدوى الاقتصادية طويلة الأجل.
مع ذلك، فإن التوجه العالمي نحو حيادية الكربون بحلول 2050 يُعطي أملًا قويًا بأن هذه التحديات قابلة للتجاوز. إذ تُظهر الاتجاهات الاستثمارية العالمية تصاعدًا في تمويل تقنيات البناء الأخضر، كما بدأت المؤسسات الدولية مثل IFC والبنك الدولي تقديم تسهيلات للمشاريع المعتمدة على تقنيات التقاط الكربون، مما قد يُسرّع من تحولها إلى معيار جديد في الصناعة خلال العقد القادم.
تُعتبر تقنيات التقاط الكربون عنصرًا أساسيًا في مستقبل البناء الأخضر، حيث تُساهم في تطوير مدن مستدامة تُقلل من التأثيرات البيئية السلبية وتُحسّن جودة الحياة. مع استمرار الابتكار والتطوير في هذا المجال، يمكننا التطلع إلى مستقبل أكثر خضرة واستدامة.