أبنية – خاص
يشكِّل التراث جزءًا جوهريًا من الهوية الوطنية والقومية للدول، حيث يعكس أصولها وتاريخها العريق، ويجسد الحضارات المتعاقبة التي أسهمت في تشكيل ثقافتها وموروثها الحضاري. فتسعى النظم والمؤسسات إلى أن تحافظ عليه من الضياع أو النهب، أو عوامل أخرى قد تؤدِّي إلى هلاكه كعوامل التعرية والظواهر الطبيعية.
إنَّ المباني التراثية من جُملة آثار العالم التي تشمل كثيرًا من المعلومات والكنوز التي لا تُقدر بثمن، فيكون القائم عليها مُطالبًا بتوفير أشد أنواع الحماية لها، لا سيَّما أن تكون من ضمنها الهندسة المعمارية الحديثة.
الهندسة المعمارية والتراث
بادئ ذي بدء، إنَّ الهندسة المعمارية تسعى بشكل أصيل نحو دمج العناصر التقليدية في تصاميم معاصرة بطرق مبتكرة.
يعتمد المعماريون على استخدام مواد وتقنيات بناء متطورة تُحاكي تلك المستخدمة في المباني التراثية، مع الحفاظ على الطابع الأصلي. وإعادة تأهيل المباني القديمة وتجديدها دون الإضرار بتفاصيلها التاريخية، تعدُّ جزءًا من هذه الجهود. كما يتم تصميم المباني الجديدة لتكمل النسيج العمراني التقليدي المحيط بها، مما يخلق توازنًا بين الماضي والحاضر. والهندسة المعمارية الحديثة تعتمد أيضًا على التكنولوجيا لحماية وصيانة المواقع التراثية بشكل مستدام.
بيد أنَّ المِعمار منذ قديم الأزل، والذي كانت تشهده حضارات عديدة، يمكن تقسيمه لحضارات مجهولة لم نعثر لها على أثر أو ربما آثار قليلة لم تشهد سوى على وجود أقوام في هذه البقاع، والتي يمكننا عنوَنَتها تحت مُسمَّى حضارات سادت ثمَّ بادت، وأخرى قامت وظلَّ أثرها وتعاقبت عليها الأجيال. كما يمكننا مطالعة أخبارهم في القرءان الكريم: “ألم ترى كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، الَّتي لم يُخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفِرعون ذي الأوتاد” سورة الفجر: الآية (6 – 10)، لتشهد آي الذكر الحكيم على وجودهم يومًا ما.
أسرار العمارة القديمة
كانت العمارة المصرية القديمة تحمل أسرارًا مدهشة أسهمت في بقائها واستمرار آثارها على مر العصور، حتى في فترات غياب التطوير أو الإهمال. فقد أرسى المصريون القدماء الأسس الحضارية للعمارة والمعرفة، مما جعلهم بناة المعرفة الأوائل، وعلّموا الإنسانية فن تصميم وتشييد المباني. وبفضل إتقانهم للهندسة المعمارية والدقة العالية في البناء باستخدام أدوات بدائية، لا تزال منشآتهم المعمارية تقف شاهدة على عبقريتهم.
الأهرامات تعد أبرز مثال على هذا الإبداع، لكنها ليست الوحيدة. فقد شيَّد المصريون معابد مزينة بتفاصيل دقيقة، ومسلات شامخة، وقصورًا وحصونًا محفورة بعناية. ركزت هذه الهياكل على الجمال والفائدة العملية في آنٍ واحد، مما يعكس فهمًا معماريًا متكاملًا.
ولم تكن العمارة المصرية القديمة محصورة ضمن حدودها؛ فقد أثرت في العمارة العالمية، خاصة خلال فترات الاستشراق وفي القرن التاسع عشر مع الاهتمام المتزايد بعلم المصريات، حيث استعارت حضارات أخرى العديد من العناصر المعمارية المصرية كالزخارف والأعمدة والمسلات، مما جعل أثرها يستمر حتى يومنا هذا.
أنواع العمارة في العالم
أظهرت العمارة عبر التاريخ تنوعًا مذهلًا في الأساليب والتقنيات التي تطورت عبر العصور. ففي العصور الإسلامية، التي بدأت في القرن السابع، تأثرت العمارة بالطرز الرومانية والبيزنطية والهندية، وظهرت في مناطق مثل الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام. وقد انعكس هذا التنوع والتأثر في العديد من المعالم الإسلامية الشهيرة، مثل قبة الصخرة في القدس، والمساجد والقصور والحصون ذات الأقواس والتصاميم الزخرفية المتقنة.
أما العمارة الكلاسيكية، التي تأثرت بالعمارة اليونانية والرومانية منذ القرن السابع قبل الميلاد، فقد اعتمدت على الأعمدة الضخمة والتصاميم الهندسية. وانتعشت مجددًا في العصر الحديث خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع معالم بارزة مثل البيت الأبيض وبنك إنجلترا.
العمارة البيزنطية، التي ظهرت بعد انهيار العمارة الرومانية، تميزت باستخدام الطوب والملاط في بناء الكنائس والقصور، ومن أشهر معالمها آيا صوفيا. في حين أن العمارة القوطية، التي نشأت في العصور الوسطى في فرنسا، اعتمدت على الحجر والزجاج الملون، مع كنائس بارزة مثل كاتدرائية نوتردام.
في العصر الحديث، تطورت العمارة بشكل ملحوظ، حيث ظهرت العمارة التعبيرية في ألمانيا في أوائل القرن العشرين مع التركيز على التعبير العاطفي والهياكل غير المتماثلة، مثل برج أينشتاين. كما برزت العمارة الحديثة في القرن العشرين، التي ركزت على البساطة واستخدام مواد مثل الزجاج والفولاذ، مع أمثلة مثل فيلا سافوي. في المقابل، جاءت عمارة ما بعد الحداثة كرد فعل على الحداثة، مع تصاميم مبتكرة وزخارف متنوعة مثل متحف غوغنهايم في بلباو. وفي الوقت الحاضر، تسعى العمارة المعاصرة إلى تحدي التوقعات بتصميمات جريئة وخطوط منحنية، بينما تسعى العمارة الخضراء، التي بدأت منذ عام 2007، إلى احترام البيئة وتعزيز الاستدامة.
ولعلَّنا بذكر الأنماط السالفة نكون قد استعرضنا مراحل للعمارة وهندساتها المختلفة عبر العصور، والتي كانت منذ القِدَم. ويبقى لنا أن نعلم كيف تعمل المؤسسات المختصة بشؤون الثقافة والآثار على الحفاظ على المباني الأثرية.
تراثيِّ أم غير تراثيِّ؟
لا بدَّ من أن يعلم القارئ أن هناك معايير للحكم على أن هذا البناء الكائن أثري أو تراثي، ويحدد الأثريون هذا من خلال استعراض 14 مظهرًا تحدد قيمة الأثر كتراث له دلالة، كما يشير أهل التخصص:
- عمر المبنى وأهميته التاريخية: كلما زاد عمر المبنى، زادت قيمته التاريخية، ويصبح الحفاظ عليه وإعادة تأهيله ضرورة للحفاظ على التراث الوطني والاجتماعي.
- موقع المبنى: يؤدي موقع المبنى التاريخي دورًا كبيرًا في إحياء المباني المجاورة وتعزيز قيمته المعمارية.
- البعد الاجتماعي: يرتبط المبنى التاريخي بالأحداث الاجتماعية والثقافية التي شهدها، مما يجعله موروثًا يسرد قصص الشخصيات التي عاشتها.
- القيمة السياسية: تعكس المباني التاريخية الهوية والأفكار السياسية التي كانت سائدة في فترة بنائها.
- القيمة المعمارية والجمالية: تمتاز المباني التاريخية بتفاصيل تصميمية فريدة تضيف قيمة معمارية وجمالية لها.
- القيمة الدينية: قد تحمل المباني التراثية قيمة دينية كبيرة بناءً على الثقافة والعقائد المرتبطة بها.
- القيمة السياحية: تسهم المباني التاريخية في تنشيط السياحة وتعتبر أداة لتبادل الثقافات من خلال تحويلها إلى معارض ومتاحف.
- تفرد المباني: تتميز بعض المباني بتصاميم فريدة تجعلها نموذجًا مميزًا في زمنها، أو تجسد طرازًا معماريًا محددًا.
- القيمة الاقتصادية: تؤدي المباني الأثرية دورًا في تعزيز الحركة السياحية والتجارية، مما يعزز القيمة الاقتصادية للمنطقة.
- القيمة التخطيطية: يرتبط المبنى بالقطاعات التخطيطية المختلفة، ويشكل جزءًا من النسيج الحضري والتاريخي للمنطقة.
- الكفاءة الوظيفية: يجب أن يتجاوز المبنى التراثي وظائفه التاريخية ليخدم الاحتياجات المعاصرة للمجتمع.
- توفير المستلزمات الخدمية: يتطلب الحفاظ على المباني التاريخية توفير خدمات حديثة دون التأثير السلبي على قيمتها التراثية.
- توفر المعلومات والوثائق: يساعد توفر المعلومات والوثائق في الحفاظ الدقيق على المباني التاريخية دون التأثير على قيمتها.
- انسجام التراث والمعاصر: يجب أن يكون هناك توافق بين العنصر البشري والمبنى التراثي ليظل ملائمًا لاحتياجات العصر الحديث.
ضوابط إعادة تأهيل المباني الأثرية
يقوم المتخصصون وأرباب مهنة الحفاظ الأثري على وضع عدد من الضوابط والمحددات؛ من أجل إعادة تأهيل المباني الأثرية:
- يجب أن تكون الوظيفة الجديدة للمبنى متوافقة مع التكوين المعماري والطابع الحضاري للمدينة، وتلبي احتياجات المنطقة المحيطة.
- ينبغي أن يتماشى الاستخدام الجديد مع القيم التاريخية والفنية للمبنى، مع الحفاظ على الطابع الأصلي.
- يجب أن تستند وظيفة المبنى الجديدة إلى فوائد اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية تضمن استدامة الصيانة.
- يتعين دراسة ملاءمة الأشكال والأحجام الداخلية للفراغات الجديدة، بحيث لا تؤثر سلبًا في المبنى التاريخي.
- يجب أن تتناسب البنية الإنشائية للمبنى مع النظام الإنشائي الجديد، بحيث لا تزيد من أعباء المبنى.
- يجب اختيار الأنماط المناسبة للأثاث والديكور بما يتوافق مع الطابع الفني والتاريخي للمبنى.
- يجب أن يراعي التصميم حجم المبنى وموقعه، بحيث لا يضر بالمساحات الأصلية، أو يضيف تعديلات سلبية.
- ينبغي أن يتم اختيار الوظيفة الجديدة بناءً على دراسة دقيقة لتأثيرها على حالة المبنى واستدامته.
استغلال المباني التراثية
إنَّ توظيف مباني التراث المعماري يعد وسيلة مثالية للحفاظ عليها وضمان استمرارها كجزء فعال من المجتمع. ويمكن استخدام هذه المباني كمساكن دائمة أو كفنادق ومطاعم تراثية، حيث يسهم تحويلها إلى أماكن سكنية وتجارية في الحفاظ على هيكلها وتنشيط المنطقة المحيطة بها. وإعادة التوظيف هذه تتطلب عمليات ترميم وصيانة مستمرة، مما يحافظ على حالة المباني الأثرية في أفضل صورة ويمنع اندثارها. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم هذه المباني لإقامة الأنشطة الثقافية مثل المعارض الفنية والمكتبات العامة، مما يمنحها دورًا تعليميًا وثقافيًا يعزز من مكانتها في المجتمع ويزيد من تفاعل الأفراد معها.
من جانب آخر، يمكن استغلال المباني التراثية في تعزيز الفعاليات الحرفية والتجارية، حيث تصبح ورشًا للحرف التقليدية، أو أسواقًا شعبية تعكس التراث الثقافي للمجتمع. كما يمكن استغلال المساحات البينية والساحات لإقامة الأنشطة الترفيهية والتعليمية التي تستهدف تنمية المواهب المحلية، بالإضافة إلى الاستثمار في المرافق الخدمية التي تخدم الزوار والسكان على حد سواء. هذا التنوع في استخدامات المباني التراثية يجعلها مركزًا حضريًا نشطًا، يعزز الروابط الاجتماعية والثقافية، ويسهم في إحياء التراث بطريقة مبتكرة ومستدامة.
أهداف إعادة تأهيل المباني التراثية
يكمن الهدف دومًا من إعادة تأهيل المباني التراثية، من خلال الاستفادة منها بشكل أمثل “أقرب للمثالية”، فلا يشمل ذلك تغييرًا جوهريًا للقيم الثقافية التي يصدِّرُها المعمار، إلا في أضيق الحدود. من هنا، تحقق إعادة التأهيل للشكل التراثي غاياتها، من حيث:
- رفع القيمة الجمالية وإشراك البيئة المحيطة: تهدف إعادة استخدام المباني الأثرية إلى تعزيز قيمتها الجمالية وتعميق ارتباطها بالبيئة المحيطة بها، مما يساعد على تحسين المشهد الحضري.
- الإشراف الدائم والحماية: يتطلب الحفاظ على المباني الأثرية إشرافًا دائمًا من المتخصصين لمنع الإهمال والتعديات، وضمان استمرار استخدامها وحمايتها بشكل مباشر.
- الحماية واستمرارية الأعمال: يشمل الحفاظ على المباني الأثرية ضمان استمرار الأعمال الدورية مثل النظافة والصيانة؛ لضمان استمرارها دون إضرار بالقيمة التاريخية والمعمارية.
- تنمية المجتمع وتحسين البيئة: تسهم إعادة توظيف المباني الأثرية في تحسين البيئة المادية وتطوير الأحياء القديمة، مما يعزز من قيمة التراث الثقافي ويجذب السياح، مع الحفاظ على السلامة الإنشائية للمبنى.
يبقى التعريف الأفضل للتراث، بأنه مرآة تعكس تاريخ الأمم وحضاراتها، ومن خلاله نحافظ على الهوية الوطنية والحقوق التاريخية. لذلك، فإن إعادة تأهيل المباني التراثية هي أداة أساسية للحفاظ على الذاكرة الجماعية وتوريثها للأجيال القادمة.