خاص – أبنية
يشهد قطاع البناء تحولًا عميقًا مع اعتماد الهندسة الحيوية كمصدر للابتكار في مواد البناء. من الفطريات والطابعات الحيوية إلى الطحالب الحية في الواجهات، تتشكل تقنيات جديدة تقلل من الانبعاثات الكربونية وتحسّن الأداء البيئي. هذه القفزة المعمارية لا تقتصر على توفير بدائل للخرسانة فحسب، بل تسعى لصياغة بيئة عمرانية حية قادرة على التكيف مع الطبيعة.
1. فطريات “ميسليوم” كبديل حيوي للطوب
بدأت مجموعة من الباحثين في استكشاف الفطريات “ميسليوم” كخيار مبتكر لإنتاج مواد بناء أكثر استدامة، حيث يتم تنمية ألياف الفطر داخل قوالب مخصصة لتتحول إلى كتل تشبه الطوب. هذه الكتل خفيفة الوزن، عازلة للحرارة، مقاومة للماء والنار، وقابلة لإعادة التدوير، ما يجعلها منافساً محتملاً لمواد البناء التقليدية التي تستهلك قدراً أكبر من الطاقة والموارد.
الميزة الأبرز لهذا “الطوب الحي” تكمن في بصمته البيئية المنخفضة، إذ يتطلب إنتاجه طاقة أقل بكثير مقارنة بالخرسانة أو الإسمنت. ويرى خبراء الاستدامة أن هذا التوجه لا يعزز فقط الابتكار في قطاع البناء، بل يفتح الباب أمام حلول بيئية عملية تسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية، مع إمكانية توظيفه مستقبلاً في مشاريع معمارية مستدامة على نطاق واسع.
2. الطحالب تمهّد لواجهات إنتاجية
تُعدّ الطحالب اليوم من أبرز العناصر التي يعوَّل عليها في تطوير واجهات معمارية إنتاجية، بفضل تقنية photobioreactor التي تسمح بتحويل جدران المباني إلى وحدات حية قادرة على التقاط ثاني أكسيد الكربون من الجو. وبهذا الدور المزدوج، تساهم الطحالب في تنقية الهواء وإنتاج الأوكسجين، لتصبح جزءاً من منظومة حيوية متكاملة تخدم البيئة والمستخدم في آن واحد.
إضافة إلى دورها البيئي، تتميز هذه التقنية بإمكانية توليد طاقة بيولوجية تُستخدم في تشغيل المبنى أو دعمه في تلبية جزء من احتياجاته اليومية. ومن خلال هذا الدمج المبتكر بين الطبيعة والتقنية، تتجسد فكرة العمارة الحيوية التي لا تقتصر على الاستدامة فحسب، بل تتخطاها نحو نماذج مستقبلية تجعل المباني عناصر نشطة ومنتجة داخل النسيج الحضري.
3. خلايا حية تصنع المبنى وتصلحه
من جانبهم، طوّر فريق بحثي في جامعة كولومبيا نموذجاً مبتكراً لـ طوب حي مصنوع من فطر Ganoderma يتميز بقدرة استثنائية على “الالتئام الذاتي”. ففي حال تعرض أحد الأجزاء إلى تشققات أو كسور، يكفي إضافة كمية جديدة من الفطر داخل البنية ليتكاثر ويندمج مع المادة الأصلية، مما يعيد لها صلابتها خلال أيام قليلة فقط.
هذا الابتكار لا يفتح الباب أمام مواد بناء أكثر استدامة فحسب، بل يعزز أيضاً من عمر المباني وكفاءتها التشغيلية، إذ يقلل الحاجة إلى الإصلاحات التقليدية المكلفة والمعقدة. ويؤكد خبراء الاستدامة أن مثل هذه الحلول تمثل قفزة في مجال العمارة الحيوية، كونها توظف خصائص الكائنات الحية لتطوير بنى تحتية أكثر مرونة وصداقة للبيئة.
4. دراسات الواقع والمستقبل
• في أستراليا، يعمل باحثون من جامعة كوينزلاند على تطوير طوب مبتكر مصنوع من الطحالب والأصداف البحرية، يتميز بقدرة عالية على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو. هذا الابتكار يقدّم حلاً بيئياً يعزز كفاءة البناء، ويشكل بديلاً صديقاً للمناخ عن المواد التقليدية. ويراهن الباحثون على أن يكون هذا الطوب جزءاً من مستقبل العمارة المستدامة في المدن الساحلية.
• أما في الولايات المتحدة وألمانيا، فقد تعاون فريق بحثي من جامعة بنسلفانيا (Penn State) مع مؤسسات أوروبية لبناء طابعات ثلاثية الأبعاد قادرة على إنتاج مواد بناء من الميسليوم. الفكرة تقوم على استغلال خصائص الفطر لتشكيل هياكل خفيفة، قوية، وقابلة للتحلل الطبيعي. ويعد المشروع خطوة رائدة نحو دمج التكنولوجيا الحيوية مع الطباعة ثلاثية الأبعاد في قطاع البناء.
5. لماذا يهم الموضوع؟
• تقليل البصمة الكربونية: تمثل المواد الحيوية ثورة في قطاع البناء لأنها تُنتَج بطاقة أقل وتقلل الانبعاثات مقارنة بالخرسانة والإسمنت. هذا التوجه ينسجم مع السياسات العالمية لمواجهة تغيّر المناخ. كما يتيح للمدن تحقيق أهدافها في الاستدامة على المدى البعيد.
• تحسين جودة الحياة: تتميز هذه المواد بقدرتها على توفير بيئات داخلية أكثر صحة بفضل خصائصها الطبيعية في العزل والتنظيم الحراري. بعض الأنواع تسهم في تقليل مسببات الحساسية وتنقية الهواء. وهو ما ينعكس إيجاباً على راحة السكان وإنتاجيتهم اليومية.
• اقتصاد بيئي محلي: المواد الحيوية يمكن زراعتها أو إنتاجها محلياً باستخدام موارد طبيعية متوفرة، ما يقلل الاعتماد على الواردات. هذا يدعم الاقتصادات المحلية ويوفر فرص عمل جديدة في مجالات الزراعة والتصنيع الحيوي. كما يخفض تكاليف النقل والانبعاثات المرتبطة به.
تشير التطورات المتسارعة في الهندسة الحيوية للبناء إلى تحول نوعي في طريقة تعاملنا مع المدن والعمارة، حيث لم تعد المباني مجرد هياكل صامتة، بل أنظمة حية تتفاعل مع البيئة وتساهم في حمايتها. من الطوب الفطري القادر على الالتئام الذاتي، إلى واجهات الطحالب المنتجة للطاقة، تتعدد النماذج التي تعكس رؤية مستقبلية أكثر مرونة واستدامة. هذه الحلول لا تعزز كفاءة المباني فحسب، بل تساهم أيضاً في تحسين صحة الإنسان، خفض الانبعاثات، وتوفير بدائل محلية صديقة للمناخ. ومع استمرار الأبحاث والتجارب، قد نشهد قريباً مدناً تُبنى ليس فقط بالمواد، بل بالكائنات الحية نفسها.