مرائب وقوف السيارات.. نقيض أم فرصة للتمدن الحضري؟

Camilla Ghisleni

في عصر التخطيط الحضري الذي يركز على الإنسان، ومدن الـ 15 دقيقة، و”العيون على الشارع”، والمساحات العامة النشطة، غالبًا ما يُنظر إلى مرائب وقوف السيارات على أنها نقيض للمُثُل الحضرية المعاصرة. لكن لم يكن الحال كذلك دائمًا. فإذا كانت اليوم تمثل تحديًا للمهندسين المعماريين والمخططين لإعادة ابتكارها سعيًا وراء تنقل أكثر استدامة ومدن أكثر إنسانية، فقد وقفت في الماضي كشاهد على تحول جذري في كيفية تنقلنا وسكننا وإدراكنا للمساحات الحضرية. كانت مرائب وقوف السيارات، التي كانت ذات يوم رموزًا للحداثة، تجسد ذروة عصر كان يُنظر فيه إلى السيارة كقوة دافعة للتقدم. ويكشف هذا التحول في المعنى أنها أكثر بكثير من مجرد هياكل نفعية، إنها انعكاسات قوية لتطور التمدن الحضري والتكنولوجيا والعادات الاجتماعية على مدى القرنين الماضيين.

علاقتنا بالسيارة معقدة، ومتناقضة من نواحٍ عديدة. حتى بعد خمسين عامًا، لا تزال ملاحظة بودريار لها صدى.. السيارة هي امتداد للمجال المنزلي، مساحة يشعر فيها الأفراد بالحماية، حتى بعيدًا عن المنزل. هذا الاعتماد، المرتبط بصورة السيارة كرمز للحرية الفردية، يمتد عبر طبقات مختلفة من الثقافة.

لا يمكن إنكار أن السيارة كانت، ولا تزال، ضرورية للاستقلالية الفردية، خاصة في السياقات التي فشلت فيها الدولة في توفير البنية التحتية الكافية. وفي الوقت نفسه، فقد أدت إلى نشوء مدن تتسم بشكل متزايد بالعزلة وعدم الاستدامة. وعلى الرغم من هذا التناقض، فإن وجودها، والهياكل المرتبطة بها، مثل مرائب وقوف السيارات، يظل جزءًا من النسيج الحضري، مما يثير تساؤلات حول المجتمع، والهندسة المعمارية، والتحول المعاصر.

قرن من تاريخ مرائب وقوف السيارات

تتزامن أصول مرائب وقوف السيارات مع التبني الجماعي للسيارات في المدن الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر. تم بناء أول مرآب لوقوف السيارات في لندن عام 1901، وهو مبنى مكون من سبعة طوابق يتسع لحوالي 100 سيارة. وفي نفس الوقت تقريبًا في برشلونة، وتحت مبنى كازا ميلا الشهير لأنطوني غاودي، تم تطوير أول هيكل لوقوف السيارات تحت الأرض في أوروبا، ويحتوي على مصاعد لنقل السيارات بين الطوابق، وهو مقدمة للأنظمة الميكانيكية التي ستحدد لاحقًا هذا النوع من المباني.

خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، جرب المهندسون المعماريون الأوروبيون أنواعًا جديدة من مرائب وقوف السيارات، حيث أدخلوا منحدرات حلزونية وحلولًا حداثية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مرآب “Kant-Garage” في برلين “1930”، بمنحدره الحلزوني المزدوج ومساحته التي تتسع لـ 300 مركبة، ومرآب “Stern-Garagen” في كيمنتس “1928”، الذي استخدم المصاعد لنقل السيارات عبر ستة طوابق.

بعد الحرب العالمية الثانية، أدى الازدهار في ملكية السيارات إلى الانتشار الهائل لمرائب وقوف السيارات، سواء كانت مبانٍ قائمة بذاتها أو هياكل مدمجة في مراكز التسوق. أصبح الخرسانة المسلحة هي المادة السائدة، على الرغم من أن الهياكل الفولاذية اكتسبت شعبية أيضًا لتمكينها بناءً أسرع وأكثر مرونة. في الستينيات، برز مرآب “Castle Terrace Car Park” في إدنبرة “1964-1966” كمثال على الطراز الوحشي “Brutalist” لهذا النوع من المباني، وقد صُمم بحساسية ملحوظة تجاه محيطه التاريخي.

ومع ذلك، على مدار تاريخها، لم يبرز سوى عدد قليل من مرائب وقوف السيارات، سواء للجرأة الهيكلية، أو الابتكار التكنولوجي، أو الاهتمام الرائد بسياقها الحضري. لكن معظمها، مع ذلك، لم تصبح أكثر من مجرد صناديق خرسانية بسيطة، مجردة من أي تعبير معماري.

لعقود من الزمن، خلقت العديد من المرائب “مناطق ميتة” داخل المدن، وهي هياكل أحادية الوظيفة ذات واجهات صماء وغير جذابة أدت إلى تعطيل الحيوية الحضرية وتثبيط حركة المشاة. ولكونها نقيض التمدن الحضري المعاصر، فإنها تمثل كل ما تسعى المدن الآن إلى تجنبه. وفي هذا السياق، من الواضح أنه لكي يظل هذا النوع من المباني ذا صلة في مدن القرن الحادي والعشرين، هناك حاجة إلى نهج جديد، نهج يتجاوز المنفعة لدمج الأبعاد التقنية والمكانية والحضرية.

تغيير النموذج.. مرآب وقوف السيارات في القرن الحادي والعشرين

بينما تشهد المدن تحولًا في التنقل الحضري، يتميز بصعود وسائل النقل العام الفعالة، وخدمات مشاركة السيارات، والموجة القادمة من المركبات ذاتية القيادة، بدأ نموذج مرآب وقوف السيارات التقليدي يظهر حدوده، وفي بعض الحالات، تقادمه. يكمن التحدي الآن في إعطاء الأولوية للتجربة البشرية على المنطق المعتمد على السيارات البحتة، وتحويل هذه المساحات إلى بنى تحتية هجينة توفر جودة معمارية وسلامة وحيوية حضرية.

تشير المشاريع الحديثة التي تدمج الاستخدامات المختلطة، مثل البيع بالتجزئة، والترفيه، والإسكان، والمناطق الخضراء، إلى مستقبل يمكن أن تصبح فيه مرافق وقوف السيارات محفزات حضرية بدلاً من “مناطق ميتة”. وفي الوقت نفسه، أدت التطورات التكنولوجية مثل أنظمة وقوف السيارات الآلية والبناء المعياري في الفولاذ أو الخرسانة سابقة الصب إلى زيادة المرونة، مما يسمح لهذه الهياكل بالتكيف أو إعادة استخدامها مع تطور المدن. يمكن رؤية هذا في مشروع ODA في بوينس آيرس، الأرجنتين، الذي يحول أنقاض هيكل موقف سيارات سابق إلى حديقة عامة ومبنى مكاتب.

التكامل الحضري والتعبير المعماري.. أمثلة معاصرة

يُجسد مشروع “Park+Ride Antwerp”، الذي صممته شركة HUB، هذه الرؤية المعاصرة من خلال الاندماج السلس في شبكة التنقل بالمدينة. فبالإضافة إلى تقليل الازدحام، يدعم المشروع سياسات النقل المستدام من خلال نظام “أوقف واركب” الذي يشجع السائقين على ترك سياراتهم ومواصلة رحلتهم عبر وسائل النقل العام.

تكمن الجودة المعمارية لمثل هذه المشاريع في كفاءتها ووضوح حركة المرور، فضلاً عن قدرتها على التعامل بأمان مع التدفقات الكبيرة للمستخدمين والمركبات. يقع المبنى في منطقة استراتيجية، ويعمل كمركز لوجستي وبنية تحتية حضرية نشطة في آن واحد، لا يوفر وقوف السيارات فحسب، بل يدعم أيضًا المساحات المشتركة والمساعدة.

يسلط هذا المثال الضوء أيضًا على جانب رئيسي من هذا النوع من المباني.. الاهتمام بحركة سير المشاة، والذي غالبًا ما يتم تجاهله. فالمسارات سيئة التصميم تجعل التجربة مربكة وغير آمنة. يجب أن تأخذ خيارات التصميم مثل نوع المنحدر، مستقيم، حلزوني، نصف دورة، أو مستمر، في الاعتبار كلاً من التحسين المكاني وإنشاء مسارات بديهية ومريحة.

بالإضافة إلى دورها في شبكات التنقل، سعى المهندسون المعماريون بشكل متزايد إلى إدخال استخدامات جديدة لهذه الهياكل، وتحويلها إلى مكونات نشطة للمدينة. يجسد مشروع “Park’n’Play”، الذي صممته شركة JAJA Architects في كوبنهاغن، هذا النهج من خلال تضمين ملعب عام على السطح يمكن الوصول إليه عبر درج حلزوني يلتف حول الواجهة. وبالتالي، يتجاوز المبنى غرضه النفعي، ليصبح وجهة حضرية ويثبت كيف يمكن حتى للبرامج الأكثر اعتيادية أن تكتسب قيمة ثقافية واجتماعية عند تصميمها بحساسية.

يكشف هذا المشروع أيضًا عن الإمكانات التعبيرية لواجهات مرائب وقوف السيارات كحقول للتجريب المعماري. يمكن معالجة التهوية الطبيعية، الضرورية للسلامة وجودة الهواء، جماليًا من خلال استخدام الشرائح “louvers”، أو الشباك المعدنية، أو الألواح المثقبة، مما يمنح المبنى هوية مميزة مع ضمان الضوء والتهوية المتقاطعة.

على مدار أكثر من قرن، تطورت مرائب وقوف السيارات من مجرد هياكل نفعية إلى انعكاسات للتحولات التكنولوجية والحضرية والثقافية. اليوم، بينما نعيد التفكير في التنقل، تثبت هذه الأمثلة أن هذا النوع من المباني لا يجب أن يظل أثرًا لنموذج قديم. بل يمكن إعادة تصوره كعنصر فاعل في الحياة الحضرية المعاصرة، يتماشى مع تنقل أكثر ذكاءً واستدامة ويتمحور حول الإنسان.
المصدر: archdaily