صالح بن هامل
يقال إن ملك الحيرة النعمان اللخمي قبل الإسلام وفي القرن الخامس، كان شغوفا بالبناء. اهتم ببناء مدينة النعمانية على إحدى ضفاف دجلة، وأراد أن يبني قصرا لا نظير له، ليتباهى به بين العرب والفرس. فبحث كثيرا وسأل مرارا عن مهندس ماهر وذي باع طويل في بناء وتشييد القصور. وانتهى به الأمر لاختيار المهندس البيزنطي «سِنِمّار» لتصميم وبناء القصر. ويقال بإحدى الروايات إنّ بناء القصر المسمى (الخورنق) استغرق عشرين عاما. أبهر سكان الحيرة خلال فترة بنائه لما فيه من جمال التصميم ودقة التنفيذ، وعندما انتهى بناؤه، أخذ ملك الحيرة يتجول داخل القصر وبرفقته المهندس البيزنطي. في نهاية جولته طلب الملك أن يتحدث مع سِنِمّار على انفراد، ويقال إن سِنِمّار كان مغرورا بهذا العمل وقال للملك: لو شئت لجعلت هذا القصر يدور بدوران الشمس، وفي مقولة أخرى يقال: أنّ سِنِمّار أخبر الملك أن هذا القصر يرتكز على حجرٍ في زاوية ما في القصر، إذا سحب من مكانه هوى القصر وتهدم بأكمله. وبعد حديث الملك مع المهندس، أمر جنوده بأنّ يستدرجوه إلى أعلى قمة القصر، ويلقوا به ليموت ويموت معه سر بناء القصر، فقالت العرب مثلها الشهير «جزاؤه جزاء سِنِمّار» !
كانت الأمم والشعوب في تلك الحقبة وما قبلها، تفتخر وتتباهى بقصورها ومدنها وأسوارها. بل إن عجائب الدنيا السبع صُنفت واختيرت قديما بناء على فنون ومهارات البناء والتشييد، من الأهرامات الفرعونية وسور الصين العظيم إلى تاج محل الهندي، أما ما يحدث في عصرنا، فيمكن القول إنه عصر المعجزات والابتكارات العلمية التي لم يشهد لها مثيلا في الأمم والحضارات التي خلت. ولكن ! لكل عصر نوع فريد من التحديات، والتي تشكل الهاجس الكبير لصُناعِ القرار، والفرد والمجتمع. ولعل من أهمها مشكلة الإسكان العالمية. العالم يشهدُ نمواً سكانيا مُطّردا وغير مسبوق. ويبلغ التعداد السكاني العالمي الحالي نحو 7.6 مليارات نسمة، منهم 4.2 مليارات يعيشون في المناطق الحضرية. وحسب تقارير الأمم المتحدة للتنمية الحضرية يُتوقع أن تزداد نسبة العيش في المناطق الحضرية لتصل إلى 6.7 مليارات خلال العقود الثلاثة المقبلة. وهذا بدوره يضع المزيد من الضغط على المناطق الحضرية والموارد الطبيعية. ويمكننا القول إن قضية النمو السكاني وتوفير الإسكان أصبحت من أهم القضايا العالمية، في الوقت الذي تعمل مجموعة من المراكز البحثية على إعادة النظر في طرق البناء والتنمية الحضرية، لتحقيق مزيد من التنمية الشاملة والمستدامة، وتلبية الاحتياجات الشعبية من مساكن وبنى تحتية وغيرها من مرافق المدينة الحضرية.
ولا يخفى على الجميع أن السعودية مجتمع شاب، ما يقارب %70 من السكان تحت عمر 35 عاما. هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع ما زالت في معظمها تبحث عن أفضل الطرق وأيسرِها للحصول على سكن مناسب بجودة جيدة وتكلفة معقولة. ويمكننا القول إن قضية الإسكان من أهم القضايا التي تشغل فكر المسؤولين والوزارات المعنية. فمن ضمن الجهود الرسمية في المملكة، بنت وزارة الإسكان في أواخر 2018 نموذجا سكنيا في الرياض يعتمد على أحدث تقنيات البناء، ألا وهي البناء باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد. وتعد هذه التقنية من أحدث وأسرع الطرق في التشييد والبناء، فهي تعتمد على إدخال المخطط في نظام حاسوبي مرتبط بذراع دوران متحرك بمضخة أسمنتية تطبع المخطط آلياً حسب الأبعاد والارتفاعات المدخلة في النظام. وتعد هذه التقنية من تقنيات البناء الأخضر والصديقة للبيئة، فهي لا تنتج مُخلفات بناء خلال مراحل التنفيذ، بل إنها قد تستخدم مواد خام محلية. ويراهن من يقف خلف هذه الصناعة بنجاحها في حل مشاكل الإسكان، ومشاكل أخرى متنوعة لتشمل الصناعات الطبية والزراعية.
كل ما نحتاجه في ظل الثورة الرقمية المعتمدة على تقنية المعلومات والاتصالات وإنترنت الأشياء IOT، أن تكون طرق التسويق وبناء النماذج على نطاق أوسع لتصل لمستوى الثقة والقبول من المواطنين لبناء مساكن المستقبل في وقت قياسي وبسعر مالي مقبول. فقد شهدت مدينة دبي بناء أكبر مبنى من إنتاج الطباعة ثلاثية الأبعاد. ليكون مقرا لإحدى بلديات دبي، بمساحة تجاوزت 640 مترا مربعا وارتفاع 9.2 أمتار، وتم إنجازه في فترة لم تتجاوز الثلاثة أسابيع. ليكون مثالا ونموذجا قائما أمام المواطنين، يمنحهم الثقة للاستفادة من التقنيات الحديثة في عالم وتقنيات البناء.
أخيرا ما ذنبك يا سنمار ! أن تفتخر وتتباهى بمنجزك الهندسي الذي استغرق عشرين عاما، ماذا لو كنت تعلم أن الوقت سيمر ويمضي، وتأتي بعدك حضارات وأجيال من البشرية يبنون القصور والمباني خلال أسابيع وأيام معدودة.
بل إن المستقبل القريب مليء بالمفاجآت في عالم البناء وتشييد المدن. وكلنا ثقة أن السعودية بقيادتها الرشيدة، ستكون شريكة ورائدة في توظيف التكنولوجيا للإسهام بتقديم الحلول الفعالة لحل مشاكل الإسكان، بل أبعد من ذلك.