أبنية – خاص
لم يعد تصميم المدارس والجامعات مجرد مسألة هندسية أو تخطيطية بحتة، بل بات فعلًا ثقافيًا وتربويًا يعكس فلسفة مجتمعية أوسع. العمارة الحديثة أصبحت شريكًا في صياغة بيئة تعليمية تُشجع على الفضول، التعاون، والابتكار، عوضًا عن الاكتفاء بالحجرات المغلقة والممرات الجامدة.
السطورة الآتي استعراضها، تكشف عن تساؤل كيف تسهم العمارة في إعادة تعريف الفضاءات التعليمية لتُصبح منصات للانفتاح والتجريب؟
في ظل التحولات السريعة في مفاهيم التعليم وطرق تقديم المعرفة، والعمل على إعطاء شكلًا واقعيًا لعمارة تشكل فضاءات عالمية، يتحقق ذلك متجلِّيًا مع الإشارة إلى نماذج عالمية واقعية وتوصيات مستقبلية.
أهمية الفضاءات التعليمية المصممة بذكاء
تلعب الفضاءات التعليمية دورًا جوهريًا في تشكيل سلوك الطالب ومخرجات العملية التعليمية، إذ لا يقتصر دورها على الاستيعاب المكاني فحسب، بل تتفاعل مباشرة مع الحواس والعقل. فالمباني التي تُراعي التصميم المفتوح، والمرونة في الاستخدام، والضوء الطبيعي، تمنح الطلاب بيئة محفّزة على الاستكشاف والتعاون، مما يعزز من مستويات التركيز والانخراط الفعّال. وقد أظهرت دراسة “OECD Education & Skills 2024”، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” أن الفصول المصممة بمرونة تزيد من تحصيل الطلبة بنسبة تصل إلى 16% مقارنة بالفصول التقليدية المغلقة.
من جانب آخر، تساعد الفضاءات المصممة بذكاء على كسر الفجوات الاجتماعية، وتُشجع على التفاعل بين الفئات المختلفة داخل المدرسة أو الجامعة. فعندما تُصمم الممرات كأماكن للحوار، أو تتحول المساحات بين الفصول إلى ساحات للنقاش الحر، تتحول المؤسسة التعليمية من مكان للتلقين إلى بيئة حية قائمة على التعلّم التشاركي. لذا فإن المعماريين لا يبنون مدارس فحسب، بل يُعيدون بناء فلسفة التعليم من أساسها.
التصميم البيئي ودوره في دعم الصحة العقلية والتحصيل الدراسي
تشير دراسات عدة، منها تقرير World Green Building Council 2024، إلى أن جودة التصميم البيئي – مثل وفرة الضوء الطبيعي، التحكم في الضوضاء، وتحسين جودة الهواء – لها تأثير مباشر على صحة الطلاب النفسية وتحسين مستويات الانتباه. على سبيل المثال، مدرسة “Ørestad Gymnasium” في كوبنهاغن، صُممت دون فصول مغلقة، وتُركت الفضاءات مفتوحة مع تقسيمات خفيفة تسمح بالرؤية والتنقل. وقد أظهرت نتائج الدراسة أن الطلاب أبدوا درجات أعلى في التفاعل الجماعي والإبداع مقارنة بالمدارس التقليدية.
التفاعل بين التكنولوجيا والتصميم المعماري
إدماج التكنولوجيا لم يعد مقتصرًا على الشاشات الذكية وأجهزة العرض، بل أصبح متجذرًا في بنية الفضاء نفسه. تصميم الجدران كمساحات كتابة، الأرضيات التي تحتوي على حساسات للحركة، والفصول القابلة للتحول الذكي بحسب المادة أو نوع النشاط – كلها أمثلة على التكامل بين العمارة والتكنولوجيا. مثال على ذلك “Microsoft School of the Future” في فيلادلفيا، التي صممتها شركة Gensler، حيث تم دمج البنية الرقمية في الجدران والممرات، وتهيئة الفضاءات لاستيعاب التغيير اللحظي في أنماط التدريس، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الالتحاق والرضا بين الطلاب.
أمثلة عالمية تعيد تعريف التعليم بالتصميم
في السويد، تُجسّد مدرسة “Vittra Telefonplan” مفهوم التعليم المفتوح من خلال الاستغناء عن الفصول التقليدية، والاعتماد على “عناقيد تعليمية” مصممة لتوفير بيئات متنوعة تناسب أساليب التعلم المختلفة. لا توجد مكاتب ثابتة، بل مساحات مرنة تسمح للطلبة بالتحرك والعمل الجماعي أو الفردي بحرية. هذا التصميم المبتكر نال إشادة عالمية، إذ صنّفته عدة مؤسسات معمارية وتعليمية كأحد أكثر البيئات المدرسية إلهامًا في أوروبا.
أما جامعة نانيانغ التقنية في سنغافورة، فتقدم نموذجًا آخر عبر تصميم مبنى كليات العلوم الإنسانية والفنون على شكل “قرى تعليمية”، ترتبط ببعضها بممرات دائرية، وتضم حدائق وسقوف خضراء مخصصة للأنشطة الفكرية. هذه البيئة التعليمية لا تعزز فقط الاستدامة، بل تدفع الطلبة نحو الحوار والانفتاح الفكري. وبالانتقال إلى الدنمارك، تبنّت مدرسة Ørestad Gymnasium مفهوم المساحات المفتوحة بالكامل، حيث تم الاستغناء عن الجدران الداخلية كليًا، ما شجع على التعلم التشاركي وأعاد تعريف الحدود بين المعلم والمتعلم.
مستقبل التصميم التعليمي.. بين الذكاء الصناعي والمرونة الاجتماعية
مع تطور الذكاء الاصطناعي وتزايد الاعتماد على التعلم المُدمج، يتوقع أن تشهد الفضاءات التعليمية تحولات أعظم في العقود القادمة. ستُصمم المباني لتُراعي الاستخدام المرن – فصول تتحول إلى معامل، ممرات تُصبح ساحات نقاش، وأسقف تُستخدم للزراعة أو التجريب البيئي. كما يتجه المصممون إلى تبني معايير الاستدامة والتكنولوجيا التفاعلية لتقليل البصمة الكربونية وتحقيق التعلم القائم على التجربة.
وفقًا لتقرير“Learning Environments for Tomorrow” ، الصادر عن “UNESCO – 2024 Edition”، فإن مستقبل المدارس يعتمد على مدى تكيفها مع الواقع الرقمي والهويّات المتنوعة، مما يعني أن تصميم المدرسة لم يعد فقط هندسة للمكان، بل هندسة للتجربة التعليمية ذاتها.
إذا كان التعلم في جوهره فعلًا إنسانيًا، فهل يمكن للعمارة أن تُصبح المعلم الصامت الذي يوجه، يُلهم، ويدفع بالتفكير إلى ما هو أبعد من السبورة، لا سيما ونحن في زمن تتغير فيه مفاهيم التعليم بسرعة؟
لكنها تبقى الفضاءات التعليمية المصممة بذكاء وشمولية، البنية التحتية الحقيقية لمستقبل المعرفة.