أبنية – خاص
كان القدماء يلجؤون إلى أساليب وحيل لتقوية البناء، وكانوا يبتكرون فيها, فمنذ اللجوء إلى الكهوف وأعالي الجبال والاحتماء بالطبيعة، واعتماد جذوع النخل في بناء أوتاد الخيام، ثم الطوب الطيني، ومرورًا بالطوب اللبن، واعتمادهم على تقنيات أخرى لتقوية البناء، مثل: ضلوع الماموث والجلود والحجر والمعادن واللحاء والخيزران وروث الحيوانات، وخلط ألياف أخرى كشعر الخيول في الطين؛ من أجل الحصول على بناء متماسك وصلب يقاوم مرور الزمن والتغيرات المناخية.
ظلَّت الأفكار تتوالى وتنمو سعيًا من أجل بناء قوي يتميز بالصلابة والمرونة، فاعتمد البُنيان على قواعد خرسانية، تستخدم آليات البقاء ومقاومة الصدأ. ولكن كانت الفكرة الأكثر جنونًا أن تكون هذه المرونة والحماية ذاتية من تلقاء نفسها، تعمل محل الإنسان في حفظ الأرواح وإرساء قواعد من الاستدامة، ثمثَّلت في تجربة الخرسانة الحيَّة.
بايوفايبر تجربة الخرسانة الحيَّة
منذ عام تقريبًا، أدخل الفريق البحثي -وهو من كلية الهندسة بجامعة دريكسيل- لمسة جديدة على ممارسة قديمة كان يستخدمها البناؤون الأوائل لتحقيق هذا المفهوم الجديد لـ”الخرسانة الحية” التي تستخدم بكتيريا تندفع إلى موقع الشقوق لإصلاح الضرر.
الفريق التابع للجامعة الواقعة في فيلاديلفيا اعتمد على الألياف المحملة بالبكتيريا أو “بايوفايبر”، وقدم في الدراسة وصفًا تفصيليًا لهذا النظام، مشيرًا إلى أنه عبارة عن ألياف بوليمر مغطاة بهيدروجيل محمل بالبكتيريا وقشرة واقية تستجيب للأضرار، حيث تعمل شبكة الألياف الحيوية المدمجة داخل الخرسانة على تحسين متانتها، وتمنع الشقوق من النمو، وتمكّن من إصلاحها ذاتيًا.
محاولات سابقة
ليست المحاولة المذكورة، الأولى من نوعها، فقد كانت هناك مساعٍ حيوية من أجل تشييد أبنية قوية، تعتمد على أسس متينة، وذلك قبل منتصف تسعينيات القرن العشرين، مثل الكبسولات اللاصقة وفكرة اللدائن.
كبسولات لاصقة
ظهرت أولى محاولات تطوير تقنية لمعالجة تشققات الخرسانة ذاتيًا عام 1994، حيث اعتمدت على فكرة تغليف لاصق داخل كبسولة صغيرة أو في ألياف قصيرة أو أنابيب أطول. تم وضع هذه الكبسولات مع مكونات الخرسانة، وعندما تحدث التشققات، تنكسر الكبسولات وتُطلق اللاصق الذي يسد الشقوق. رغم أن الباحثين من جامعة كارديف وجامعة كامبريدج وجامعة باث والمعهد الكوري للبناء، طوروا آليات أكثر فاعلية لاحقًا، فإن هذه المحاولات لم تحقق نجاحات ملموسة في التطبيق العملي.
اللدائن متذكرة الشكل
من بين المواد الذكية الجديدة، تُعتبر اللدائن متذكرة الشكل مثالًا مثيرًا، حيث تتمتع البوليمرات بقدرتها على استعادة شكلها السابق بعد حدوث أي تشوه. وتعتمد هذه المواد على مبدأين: الأول يتعلق بعناصر ذاتية تعزز من قدرة البوليمرات على الإصلاح، والثاني يتعلق بعناصر خارجية تدعم هذه الآلية. الهدف الأساسي من استخدام هذه البوليمرات في الخرسانة هو تعزيز القدرة على سد الشقوق من خلال زيادة عناصر الاستعانة الذاتية.
تتميز هذه البوليمرات بأنها شبه بلورية ولها شكل محدد مسبقًا يُحتفظ في بنيتها، مما يمكنها من العودة إلى حالتها الأصلية. عند حدوث تشقق، يتغير شكل اللدائن، ويتم تنشيط النظام باستخدام حرارة مباشرة أو تيار كهربائي. وبمجرد تنشيطها، تستعيد البوليمرات شكلها الأصلي، مما يولد قوة شد تُساعد على إغلاق الشقوق. ومع ذلك، تعتمد هذه التقنية على تدخل خارجي، مما يجعلها تتطلب حرارة عند حدوث التشقق، وهذا يعد نقطة ضعف رئيسية.
مراحل تطوير الخرسانة الحية
ظهور الفكرة
ظهرت فكرة الخرسانة الحيوية لأول مرة عام 2006، عندما استفسر خبير تقنية من عالم الأحياء المجهرية هانك جونكرز، عن إمكانية استخدام البكتيريا لصناعة خرسانة قابلة للإصلاح الذاتي. وبدأت رحلة البحث عن سلالات بكتيرية قادرة على البقاء في بيئة الخرسانة الجافة، التي تتطلب نوعًا معينًا من البكتيريا للتكيف مع تلك الظروف.
اختيار البكتيريا
في بداية عام 2016، اختار جونكرز بكتيريا “العصوية “Bacillus “، التي تعتبر غير مؤذية وتنمو في الظروف القلوية. تتميز هذه السلالة بإنتاج الأبواغ، مما يسمح لها بالتكيف مع الظروف الصعبة. وتحتاج هذه البكتيريا إلى عدة سنوات من السبات قبل أن تُنشط بالماء، حيث يُمكن أن تبقى حية لعقود دون غذاء.
تطوير آلية العمل
تمت معالجة التحدي المرتبط بتزويد البكتيريا بمصدر غذائي لتنتج مواد إصلاح. بعد استبعاد السكر كخيار غير مناسب، استخدم الفريق لاكتات الكالسيوم، الذي يُخلط مع البكتيريا في كبسولات قابلة للتحلل. وعند حدوث تشققات، يتفكك الغلاف الخارجي للكبسولات بفعل الماء، مما يوقظ البكتيريا لتبدأ بدمج الكالسيوم مع أيونات الكربونات.
تنفيذ الفكرة
عندما تتفاعل البكتيريا مع لاكتات الكالسيوم، تتكون الكالسيت، وهو الحجر الجيري المطلوب الذي يسد الشقوق. تمكن الفريق من إصلاح تشققات بعرض 0.5 مم في المختبر. ويعملون حاليًا على اختبار الفكرة في الهواء الطلق لمعرفة كيفية تطبيقها في المنشآت المختلفة. ويأمل جونكرز في أن تمثل هذه التقنية بداية عصر جديد من المباني البيولوجية التي تجمع بين الطبيعة ومواد البناء.
فكرة عمل البايوفايبر المعالج ذاتيًا
تستند فكرة عمل الألياف الحيوية “بايوفايبر”، حديثًا إلى محاكاة الطريقة التي تقوم بها أنسجة البشرة بإصلاح نفسها، حيث تستخدم بنية ليفية متعددة الطبقات تحتوي على ألياف وسيلة شفاء طبيعية مثل الدم. هذه الألياف تستغل البكتيريا المنتجة للحجارة لإنشاء خرسانة حية قادرة على إصلاح نفسها عند تعرضها للتلف، كما يوضح فرنام.
مكونات البكتيريا المستخدمة
تشارك بكتيريا معينة في كثير من العمليات الطبيعية التي تسهم في تكوين الصخور والمعادن. ومن بين هذه البكتيريا:
- ثيوباكيلوس فيروكسيدانس: تقوم بأكسدة مركبات الحديد والكبريت، مما يؤدي إلى تكوين معادن مثل أكاسيد الحديد والكبريتات، التي تسهم في تشكيل أنواع معينة من الصخور.
- ليبتوثركس ديسكوفورا: تنتج أغلفة خيطية رفيعة يمكن أن تتغطى بأكاسيد الحديد أو المنغنيز، مما يساعد في تشكيل الرواسب المعدنية.
- البكتيريا الزرقاء: تسهم بعض أنواعها في تكوين “الستروماتوليت”، وهي هياكل طبقية تتشكل عن طريق ربط الحبوب الرسوبية بواسطة حصائر ميكروبية.
- ليسينيباسيلوسكرويكوس: تُعرف بدورها في تكوين المعادن، وخاصة كربونات الكالسيوم.
عمل الفريق البحثي مع بكتيريا “ليسينيباسيلوس كرويكوس”، التي توجد عادة في التربة، وتستطيع دفع عملية تُسمَّى ترسيب كربونات الكالسيوم، مما يؤدي إلى إنشاء مادة تشبه الحجر يمكن أن تستقر وتصلب في الشقوق الموجودة في الخرسانة.
تتفاعل هذه البكتيريا مع الكالسيوم في الخرسانة لتنتج كربونات الكالسيوم، التي تعمل كمواد تدعيم تملأ الشقوق. وقد اكتشف الباحثون أنه عندما تُحفّز هذه البكتيريا لتكوين “بوغ” داخلي، يمكنها أن تبقى في حالة سبات داخل الخرسانة حتى تُستدعى للعمل.
نظرة تطلعية
رغم التحديات المطروحة، التي تمثَّلت في تساؤلات ناقدة للفكرة، مثل: “ما نوع الشقوق التي تصلح معها البكتيريا، ومدى قدرة البكتيريا على العمل مجددًا بعد إصلاح الشقوق أو الشروخ”، فإن تقنية الـ”بايوفايبر” تمثل خطوة مبتكرة نحو مستقبل أكثر استدامة في قطاع البناء. ومع تزايد الوعي بأهمية الحفاظ على الموارد والبيئة، تفتح هذه التقنية آفاقًا جديدة لتحسين فعالية المواد الإنشائية وتقليل الحاجة إلى الصيانة المتكررة. فبفضل التطورات المستمرة في العلوم والتكنولوجيا، يمكن أن تتحول الخرسانة الحيوية إلى عنصر أساسي في المباني الذكية، مما يضمن قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة وتلبية احتياجات المجتمعات الحديثة. وفي النهاية، يمثِّل هذا الابتكار تجسيدًا لرؤية شاملة تسعى إلى دمج الطبيعة مع هندسة البناء، مما يسهم في بناء مستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.