البناء المعتمد على الذكاء الاصطناعي.. كيف تغيّر Generative AI والتحليلات التنبؤية مستقبل مشاريع الإنشاء؟

خاص – أبنية

يشهد العالم اليوم تحولًا جذريًا في قطاعات الصناعة كافة، ويأتي قطاع البناء في مقدمة المجالات التي تعيش ثورةً تقنيةً متسارعة. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي ركيزةً أساسيةً في تطوير عمليات الإنشاء من مرحلة التصميم وحتى التسليم، بفضل قدرته على التحليل والتعلّم والتكيّف مع المعطيات المعقدة.
مع بروز تقنيات النماذج التوليدية “Generative AI” والتحليلات التنبؤية، تغيّر مفهوم الكفاءة والجودة في عالم البناء الحديث. هذه الثورة الرقمية لا تُعيد رسم ملامح المشاريع فحسب، بل تؤسّس لعصرٍ جديدٍ من الإبداع والاستدامة في العمارة والهندسة.

1 – استخدام النماذج التوليدية في التصميم الهندسي
يتّجه المهندسون المعماريون والإنشائيون اليوم إلى استخدام Generative AI لإنشاء تصميماتٍ أوليةٍ تلقائية، تستند إلى معايير محدّدة مثل التكلفة، المواد، الزمن، والمتانة. هذه النماذج تُنتج آلاف الحلول البديلة بسرعةٍ تفوق الأسلوب اليدوي التقليدي، مما يفتح آفاقًا إبداعيةً أكبر.
دراسة “Generative AI in the Construction Industry: A State-of-the-art Analysis” نُشرت في عام 2024 تبيّن أن Generative AI يمكن أن تحسّن جودة التصميمات والتكرار بنسبةٍ تصل إلى 5.2% إلى 9.4% مقارنةً بالأساليب التقليدية.
على سبيل المثال، تسخّر تقنيات “Generative AI” قدراتِ التعلّم العميق “Deep Learning” لإنشاء مخططاتٍ هيكليةٍ أو تصاميمَ واجهاتِ مبانٍ بالاستناد إلى متطلبات المشروع، مما يسرّع مرحلة التصميم ويقلّل من الأخطاء.

2 – التحليلات التنبؤية وإدارة المشروع الذكية
إلى جانب التصميم، تُستخدم التحليلات التنبؤية في تخطيط الموارد، الجدولة الزمنية، وإدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فاعلية. فمثلًا، يوضّح موقع Oracle” أن “Gen AI يُستخدم لملخّصات الوثائق، وكتابة جداول التنفيذ، والكشف المبكر عن مشاكل السلامة.
وسوق Generative AI في الإنشاءات مُتوقّعٌ أن ينمو بمعدلٍ سنويٍّ مركّبٍ يصل إلى نحو 35% حتى عام 2034، وفقًا لتقرير “Generative AI in Construction Market Size, Share, and Trends 2024–2034”.
بهذه الطريقة، يمكن لمقاولي البناء تخفيض التأخيرات المرتبطة بالمشاريع، وتحسين الجدولة، وتقليل الهدر في المواد والوقت بشكلٍ ملموس.

3 – تأثير الذكاء الاصطناعي على التكلفة والزمن والجودة
يُتيح اعتماد الذكاء الاصطناعي تحقيق ثلاثي النتائج: خفض التكلفة، تسريع التنفيذ، وتحسين الجودة.
تقريرٌ صدر في عام 2025 عن سوق “Generative AI” في الإنشاءات يشير إلى أن الزيادة في الاستثمار في هذه التقنيات تقارب 3.57 مليار دولار في الفترة 2024–2029، بمعدل نموٍّ سنويٍّ تجاوز 48%.
وعلى أرض الواقع، أعلنت إحدى الشركات التقنية أنها قلّصت تكاليف التوريد والتأخير باستخدام نظام ذكاءٍ اصطناعيٍّ لتقدير المواد والمواصفات، مع خفض الزمنيّات بنسبةٍ قد تصل إلى 50%.
كما أنَّ استخدام النماذج التوليدية في التصميم يُتيح استكشاف بدائل أكثر استدامة وخيارات مواد أقل تكلفة مع الحفاظ على المواصفات المرجوّة.

4 – الفرص والتحديات في اعتماد الذكاء الاصطناعي
أ – الفرص
• تحسين إنتاجية القوى العاملة وتقليل الاعتماد على العمالة التقليدية.
• دعم الاستدامة من خلال تحسين استخدام المواد وتقليل الهدر.
• فتح إمكانياتٍ أكبر في التصميم المعماري والهندسي عبر استكشاف بدائل مبتكرة.
ب – التحديات
• ما تزال نسبة الاستخدام الفعلية للذكاء الاصطناعي في الإنشاء منخفضة؛ إذ سجّلت دراسات أن نحو 45% من الشركات لم تطبّقه بعد، و1.5% فقط تستخدمه عبر عملياتٍ متعددة.
• تكامل النظام مع الأنظمة القائمة يتطلّب بياناتٍ عالية الجودة، وبنيةً تحتيةً تقنية، ومهاراتٍ بشريةً متخصّصة.
• قضايا الأخلاقيات والخصوصية عند استخدام الذكاء الاصطناعي في مواقع العمل وتحليل بيانات العمال.

يمثّل البناء المعتمد على الذكاء الاصطناعي نقطة تحوّلٍ حقيقية في مسار التطور الهندسي والمعماري، إذ لم يعد استخدام التقنية ترفًا، بل ضرورةً تفرضها متطلبات الكفاءة والاستدامة. ومع استمرار تطور أدوات التحليل والتصميم التوليدي، يتوقع أن تتسع دائرة الاعتماد على هذه التقنيات لتشمل جميع مراحل المشروع من الفكرة إلى التنفيذ. ورغم التحديات المرتبطة بالتكلفة والمهارات والخصوصية، فإن المكاسب المتوقعة من حيث الجودة والسرعة والدقة تجعل هذا التحوّل حتميًا. المستقبل القريب يحمل وعدًا بمدنٍ ذكيةٍ تُبنى بذكاءٍ يفوق ما عرفناه من قبل، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا أساسيًا في رسم معالم عمران الغد.