دخلت السوق العقارية الشهر الرابع على التوالي من الركود، الذي كانت قد بدأته منذ مطلع تموز (يوليو) الماضي، واستمر حتى تاريخه، وجاء المصدر الأكبر لهذا الركود من القطاع السكني طوال الفترة. حيث تزامن التراجع الربعي للمتوسط الأسبوعي لإجمالي قيمة صفقات السوق بـ24.8 في المائة للربع الثالث الماضي، مع تراجع أكبر لمتوسط القطاع السكني نفسه بنسبة وصلت إلى 28.7 في المائة، وعدا ما يمكن إيعازه إلى غياب كثير من المحفزات الدافعة لأداء السوق خلال الفترة الراهنة، إلا أنه لا يمكن إغفال دور وآثار عوامل رئيسة أخرى فرضت وجودها على المشهد العقاري المحلي، أسهمت بدرجة كبيرة في تباطؤ وتيرة نشاط السوق عموما طوال الأشهر الماضية، وزاد تأثيرها بصورة أكبر في القطاع السكني مقارنة ببقية القطاعات الرئيسة الأخرى “التجاري، الزراعي، الصناعي”.
من أبرز تلك العوامل الرئيسة التي تزايد حضورها بوتيرة متسارعة منذ منتصف العام الجاري، ما تمثل في التباطؤ الذي خيم على الائتمان العقاري الممنوح للأفراد في فترة مبكرة من منتصف العام الماضي، واستمر في تباطؤه السنوي طوال الـ15 شهرا منذ حزيران (يونيو) 2021 حتى نهاية آب (أغسطس) الماضي، باستثناء شهرين فقط، انتهى بتسجيل الائتمان العقاري للأفراد انخفاضا سنويا بـ16.3 في المائة “89.2 مليار ريال” خلال الثمانية أشهر الأولى من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي “106.6 مليار ريال”، كما انخفضت أيضا معها العقود التمويلية العقارية بمعدل سنوي أكبر وصلت نسبته إلى 20 في المائة عن الفترة نفسها، وتراجعت إلى أدنى من 113.2 ألف عقد تمويلي للفترة من العام الجاري، مقارنة بنحو 141.5 ألف عقد تمويلي تم تنفيذه خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
وقد شكل ارتفاع الائتمان العقاري للأفراد أهمية كبيرة لنشاط السوق عموما، وللقطاع السكني خصوصا منذ مطلع 2019 حتى منتصف العام الجاري، الذي دفع بنمو نشاط إجمالي السوق آنذاك بنحو 24 في المائة مقارنة 2018، ونمو القطاع السكني بمعدل أكبر وصل إلى 36.1 في المائة، وتصاعد اعتماد النشاط العقاري على الزخم المتنامي للائتمان العقاري طوال الأعوام التالية، وأسهم في تصاعد مستويات الأسعار السوقية بمعدلات سنوية غير مسبوقة، واستمرت هذه الفترة من الرواج حتى نهاية منتصف العام الجاري، لتبدأ فترة مختلفة على مستوى جميع مؤشرات الأداء مع مطلع الربع الثالث الماضي ولا تزال، بالتزامن مع التراجعات التي طرأت على مستويات الائتمان العقاري للأفراد، ما يؤكد الوزن النسبي الكبير الذي أصبح يحظى به الائتمان العقاري، كأحد أبرز وأهم العوامل المؤثرة في مسار ونشاط السوق العقارية عموما، وعلى مستوى أداء القطاع السكني خصوصا.
العامل الآخر من بين تلك العوامل الرئيسة المؤثرة، الذي تصاعدت قوة تأثيره في أداء السوق العقارية بفضل الزيادة المطردة للعامل السابق “الائتمان العقاري”، ممثلا في معدل الفائدة على الإقراض البنكي، والتغيرات الطارئة عليه ارتفاعا وانخفاضا، وقد شهد معدل الفائدة منذ منتصف شباط (فبراير) أسرع وتيرة صعود منذ 2006، مسجلا حتى مطلع الأسبوع الجاري وخلال أقل من عام مضى قفزة في مستواه بأعلى من 5.3 مرة، حيث وصل معدل الفائدة بين البنوك المحلية “ثلاثة أشهر” إلى أعلى من 4.3 في المائة، وهو أعلى معدل يسجله خلال 14 عاما مضت، ويتوقع أن يستمر في ارتفاعه المطرد أسبوعا بعد أسبوع حتى نهاية العام الجاري، وأن يظل في مستويات مرتفعة طوال العام المقبل، ما لم يسجل مزيد من الارتفاع، قياسا على توقعات استمرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في اتخاذ مزيد من قرارات رفع معدل الفائدة لمواجهة التضخم المرتفع في الاقتصاد الأمريكي، ولارتباط الريال السعودي بسعر صرف ثابت مع الدولار الأمريكي، فسيقوم البنك المركزي السعودي برفع معدل الفائدة على الريال، بالقدر الذي يبقي معدل الفائدة على الريال أعلى من الفائدة على الدولار.
لقد شكل العاملان السابقان ضغوطا كبيرة على نشاط السوق العقارية طوال الأشهر القليلة الماضية، ونتيجة للارتفاع المطرد لمعدل الفائدة، فقد قامت الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري أخيرا، بتمديد فترة سداد الرهون العقارية إلى 30 عاما، مبررة قرارها “أنه جاء لضغوط مقبلة مصدرها رفع الفائدة”، ويأتي السؤال الآن حول ما قد يؤدي إليه استمرار حالة الركود المخيمة على النشاط العقاري لفترة أطول، وتأثيره في مستويات أسعار مختلف الأصول العقارية، التي كانت قد سجلت ارتفاعات قياسية غير مسبوقة طوال الفترة 2019-2022.
غالبا، سيحمل استمرار حالة الركود الراهنة لفترة أطول ضغوطا أكبر على الأسعار المرتفعة، وسيضاعف في الوقت ذاته من تلك الضغوط تسارع وتيرة الإصلاحات الراهنة للسوق العقارية، في مقدمتها بدء تنفيذ المرحلة الثانية إضافة إلى المرحلة الأولى من نظام الرسوم على الأراضي في كل من الرياض وجدة ومكة المكرمة والدمام، وبدء تنفيذ المرحلة الأولى من النظام في مدن عديدة أخرى، وفي الوقت الذي يتباطأ معه الطلب تدريجيا نتيجة لتباطؤ الائتمان وارتفاع معدلات الفائدة، مقابل ارتفاع حجم العروض من الأراضي والعقارات، لترتسم صورة مغايرة إلى حد بعيد للسوق عما كانت عليها طوال الأعوام الأخيرة الماضية، وهي الصورة التي لا تبتعد عن المشهد العام الذي تشهده أغلب الأسواق العقارية حول العالم، التي دخلت هي أيضا بنسب متفاوتة لوتيرة مشابهة من الركود، نتج عنها تراجعات النشاط وعلى مستوى مبيعاتها العقارية، للأسباب المرتبطة بالسياسات المتشددة ذاتها من قبل البنوك المركزية، في خضم مواجهتها الحازمة مع تصاعد معدل التضخم لأعلى مستوياته خلال أربعة عقود زمنية مضت في أغلبية الدول. والله ولي التوفيق.