أبنية – خاص
تبدو هندسة الملاعب الرياضية لغير المتخصصين كأي ممارسة إنشائية يقوم بها المصممون والبنّاؤون، لكنها في الحقيقة تبرز كعامل جوهري في خلق بيئة تدمج بين المتعة البصرية والراحة النفسية.. فكيف ذلك؟
لم تعد الملاعب مجرد مدرجات وملاعب عشبية، بل تحوّلت إلى فضاءات معمارية مدروسة تعزز من التفاعل الإنساني وتُراعي سلوكيات الحشود وسلامة الزائر، إضافة لاحتياجات أخرى لا تخلو من خدمة الوفود من ذوي الإعاقة، وكل ذلك في إطار تصميم مستدام وحديث.
الملاعب.. أكثر من بنية رياضية
في عالم باتت فيه التجربة الجماهيرية عنصرًا لا يقل أهمية عن الحدث الرياضي نفسه، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن تصميم الملاعب بات يرتكز على مفاهيم تتجاوز البنية الفيزيائية، ليشمل علم النفس البيئي والهندسة السلوكية. فالموقع، والتهوية، وتوزيع المقاعد، والضوضاء، وحتى درجة ميل المدرجات، أصبحت جميعها عناصر تؤثر على انفعالات الجماهير، وشعورهم بالراحة أو الانزعاج خلال الحدث.
بحسب دراسة نشرتها جامعة “Cardiff Metropolitan” في أبريل 2024، حول طريقة جديدة لتقييم وتوقّع مستوى اللياقة البدنية لدى لاعبي كرة القدم الشباب، فإن التصميم الجيد للملاعب يُقلل من مستويات التوتر لدى الجمهور بنسبة تصل إلى 28%، مقارنة بالملاعب التي تفتقر إلى التوزيع الذكي للمساحات.
أوصت الدراسة المُعنونة بـ “Repeated-sprint sets test: a new method for evaluating and forecasting fitness in elite young male soccer players”، والمنشورة داخل العدد “8542” من المجلد رقم “14” في دورية “scientific reports” باستخدام الألوان الطبيعية، والإضاءة الموزعة بنظام بيومتري، كأدوات فاعلة في تعزيز “الهدوء الانفعالي” وسط الزحام.
الراحة النفسية عبر التصميم
أحد أهم أهداف الملاعب الحديثة هو توفير تجربة متوازنة بين الانفعال الرياضي والراحة النفسية. فعلى سبيل المثال، يُراعي التصميم الحديث مساحات التنقل وتوزيع دورات المياه والمخارج، بحيث تُقلل من الازدحام والقلق الجماعي في لحظات التوتر، مثل نهاية المباريات أو الأوقات الحرجة.
وتُظهر تقارير المجلس الدولي للملاعب الرياضية “CIS” أن دمج عناصر الطبيعة في الملاعب – مثل المساحات الخضراء المفتوحة أو الشرفات النباتية – يُعزز من استجابة الزوار العصبية ويُقلل من “توتر المباريات الحاسمة”، وهو ما بدأت تنفيذه ملاعب مثل “تويوتا بارك” في اليابان و”أليانز بارك” في البرازيل.
نماذج عالمية في التصميم النفسي للملاعب
ملعب توتنهام Hotspur “لندن”
يُعد ملعب توتنهام الجديد في شمال لندن من أبرز النماذج العالمية في دمج عناصر الراحة النفسية ضمن التصميم المعماري للملاعب. فقد تم اعتماد نظام إضاءة ديناميكي يتغيّر وفقًا لتدفق المباراة وإيقاع الجمهور، مما يُسهم في تخفيف التوتر البصري وتحفيز التركيز. إلى جانب ذلك، يتضمن نظام الصوت تقنية توجيه هندسية توزع الهتافات والموسيقى بالتساوي، لتقليل الضغط السمعي على المتفرجين في المناطق القريبة من مكبرات الصوت، مما يعزز من تجربة الجمهور ويقلل من الإجهاد الحسي.
ملعب SoFi “لوس أنجلوس”
يقدم ملعب SoFi تجربة حسية مخصصة تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات العصبية لشرائح متنوعة من الجمهور، لاسيما ذوي اضطرابات التوحد أو فرط الحساسية. تم استخدام ألوان وتصاميم انسيابية مستمدة من مبادئ “التصميم العصبي” (Neuroarchitecture)، ما يجعل الملاعب بيئة أقل توترًا وأكثر أمانًا نفسيًا. كما تضم شاشات الملعب الأمريكي محتوى بصري منخفض التباين لتجنب التحفيز المفرط، ومناطق هادئة مخصصة للزوار الذين يحتاجون إلى عزل حسي مؤقت أثناء الفعاليات الرياضية.
استاد الملك عبد الله “المملكة العربية السعودية”
استاد الجوهرة المشعة، كما يُعرف، يُمثل رؤية سعودية حديثة لدمج الراحة النفسية في هندسة الملاعب. يعتمد على تصميم معماري يتيح التهوية الطبيعية في مختلف أنحاء الملعب دون الحاجة إلى أنظمة تبريد ضخمة، وهو ما يخلق بيئة أكثر اعتدالًا في درجات الحرارة.
كما تمت مراعاة تصميم ممرات مظللة واسعة تسهّل تنقل الجمهور، مع مناطق مخصصة لكبار السن وذوي الإعاقة تتضمن خدمات دعم مباشر ومرافقة لوجستية، مما يجعل الملعب الكائن في جدة من الملاعب القليلة في المنطقة التي تُطبق مفهوم الرفاه الحسي والمجتمعي بشكل فعّال.
التحديات والتقنيات المستقبلية
رغم هذا التطور، لا تزال بعض الملاعب تُواجه تحديات في إدارة الكثافة البشرية، والتكيف مع تغيرات المناخ، وتحقيق الاستدامة البيئية. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، تُشير تقارير “Deloitte Sports Tech 2024” إلى أن الجيل القادم من الملاعب سيعتمد على عدد من المعايير. تتحدد هذه المعايير في تحليل بيانات الحركة لتوجيه الحشود بشكل ذكي وتقنيات الاستشعار النفسي لمراقبة انفعالات الجمهور وتعديل الإضاءة أو الصوت وفقًا لها؛ إضافة إلى دمج الواقع الافتراضي في تجربة المشاهدة لتعزيز التفاعل دون اكتظاظ.
لا تتعلق التجربة الرياضية في الملاعب اليوم بالفوز أو الخسارة فقط، بل تتصل بشعور الجمهور بالأمان، والانتماء، والراحة النفسية داخل بيئة تراعي الإنسان بقدر ما تُكرم الحدث. هندسة الملاعب لم تعد مجرد بناء من الخرسانة، بل باتت مشروعًا حضاريًا متكاملًا يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان والانفعال.
والآن سؤال يستحق أن يُطرح في كل مناقصة تصميم.. هل يمكن اعتبار الملعب في المستقبل امتدادًا طبيعيًا للصحة النفسية؟