خاص – أبنية
تبرز “المواد الذكية” كعاملٍ محوريٍّ في تحوّل قطاع البناء نحو الاستدامة. فالمباني لم تَعُد تكتفي بأن تكون مكانًا للعيش أو العمل، بل أصبحت تسعى لأن تكون مُنتِجةً للطاقة، قادرةً على الإصلاح الذاتي، وتحمل خاماتٍ معاد تدويرها تتفاعل مع البيئة بدلًا من مقاومتها.
تستعرض السطور المقبلة كيف أن التقنيات مثل الخرسانة ذاتيةِ الإصلاح، والخرسانة الموصّلة للطاقة، والمواد المعاد تدويرها تُعيد صياغة مفهوم المباني، مدعومةً بدراساتٍ حديثة، مع تسليط الضوء على التحديات والفرص.
1 – الخرسانة ذاتية الإصلاح: مستقبل التحمل والصيانة المنخفضة
أ – تُعدّ الخرسانة ذاتيةُ الإصلاح “Self-Healing Concrete” من أبرز الابتكارات في المواد الذكية، حيث تُضاف إليها كبسولاتٌ ميكروبيةٌ أو بوليمراتٌ متفاعلةٌ تُفعَّل عند ظهور الشقوق وتملؤها تلقائيًّا.
تنطوي الدراسة المنشورة عام 2024 بعنوان “A Review of Novel Self-Healing Concrete Technologies” على تفاصيل حول قدرات هذه المواد على الإغلاق الذاتي للشقوق وتحسين كفاءة العزل الحراري للمباني.
ب – من جهةٍ أخرى، أوضحت دراسةٌ أخرى نُشرت عام 2023 بعنوان “Self-Healing Concrete: Concepts, Energy Saving and …” أن استخدام هذه الخرسانة يُقلّل من الحاجة إلى الصيانة، ويُخفّض بدوره استهلاك الطاقة المرتبط بالإصلاحات والهدر.
باختصار، تُعزّز هذه الخرسانة عمر المبنى وتُعدّ خيارًا استراتيجيًّا لمشاريع المباني الخضراء، وهي خطوةٌ نحو بناياتٍ أقلّ صيانةً وأكثرَ مرونةً.
2 – الخرسانة الموصّلة للطاقة والمواد المنتجة للطاقة
أ – تقنياتٌ حديثة مثل “Electron-Conducting Carbon Concrete EC³” أثبتت أنها قادرةٌ ليس فقط على تخزين الطاقة، بل على استخدام الهيكل البنائي نفسه كمخزنٍ للطاقة. دراسةٌ نشرتها Live Science عام 2025 أظهرت أن الباحثين في Massachusetts Institute of Technology (MIT) قد حسّنوا من قدرة هذه الخرسانة الموصّلة للطاقة بمقدار عشرة أضعاف، ما يفتح الباب نحو مبانٍ تُنتج الطاقة وتُغذّي احتياجاتها.
ب – دمج المواد المعاد تدويرها في الخرسانة أو في مواد البناء الأخرى كجزءٍ من الخلطة يُعدّ عاملًا مساهمًا في تقليل البصمة الكربونية وتحويل المباني إلى عناصرَ فاعلةٍ في الاقتصاد الدائري.
هذا الاتجاه يُحوّل المبنى من مستهلكٍ فقط إلى عنصرٍ منتِجٍ وذكيٍّ في شبكة الطاقة، ما يُعزّز كفاءة المشاريع ويُقلّل التكاليف على المدى الطويل.
3 – المواد المعاد تدويرها وتوجّه الاقتصاد الدائري في البناء
إلى جانب الابتكارات الذكية، يُعدّ استخدام المواد المعاد تدويرها والنفايات الصناعية في البناء أحد الأعمدة الرئيسة للاستدامة.
فالخرسانة التقليدية مسؤولةٌ عن نسبةٍ كبيرةٍ من انبعاثات الكربون في العالم، واستخدام موادّ بديلةٍ وخاماتٍ مُعالجةٍ يُقلّل هذا الأثر.
على سبيل المثال، أشارت دراسة RICS عام 2024 إلى أن الخرسانة ذاتيةَ الإصلاح تتيح تقليصًا في انبعاثات الكربون بحوالي 30 – 40٪ عبر تقليص الحاجة إلى الصيانة والصبّ الجديد.
كما أن المواد الذكية تُساعد في تحسين خصائص المبنى مثل العزل الحراري والصلابة، مما يجعلها مناسبةً لتصميمات المباني القادمة ذات الأداء العالي.
وبالتالي، فإن الجمع بين المواد الذكية وإعادة تدوير المخلفات يُمثّل نهجًا شاملًا نحو بناءٍ مستدامٍ ذكيٍّ وفعّال.
4 – فرصٌ وتحديات التنفيذ الجذري للمواد الذكية
أ – الفرص:
• تحسين جودة المباني وزيادة عمرها التشغيلي، مما يُقلّل التكاليف التشغيلية ويُحسّن القيمة الاستثمارية للمشروع.
• تقليص البصمة البيئية للمباني، والمساهمة في تحقيق أهداف المناخ والطاقة المستدامة.
• رفع كفاءة استخدام الطاقة وتحويل المباني إلى وحداتٍ إنتاجيةٍ للطاقة أو مخازنها.
ب – التحديات:
• ارتفاع تكلفة المواد والتقنيات الجديدة حاليًّا، ما قد يُشكّل عائقًا أمام تبنّيها على نطاقٍ واسع.
• نقص المعايير واللوائح الخاصة بالمواد الذكية والتقييم طويل الأمد لأدائها في الواقع.
• الحاجة إلى خبراتٍ فنيةٍ متخصّصةٍ لتصميم وتركيب هذه المواد وضمان دمجها ضمن المنظومة الإنشائية التقليدية.
تمثّل المواد الذكية خطوةً ثوريةً في مسار البناء المستدام، إذ تجمع بين الكفاءة البيئية والتطور التقني في آنٍ واحد. ومع تزايد الابتكار في هذا المجال، يُتوقّع أن تتحوّل المباني إلى كياناتٍ حيّةٍ تتفاعل مع محيطها. إنها ليست مجرد مواد بناء، بل أدوات لمستقبلٍ عمرانيٍّ أكثر ذكاءً واستدامة.

