أبنية – خاص
يقف مسجد القبلتين شامخًا شمال غرب المدينة المنورة، حاملاً بين جدرانه ذكرى من أعظم اللحظات في التاريخ الإسلامي، حين تحوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر من الله تعالى في أثناء صلاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه. لا يُعد المسجد مجرد معلم ديني، بل هو تجسيد معماري لذاكرة قرآنية حية لا تزال تتردد أصداؤها في نفوس المسلمين إلى اليوم.
التحول التاريخي من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة
جاء التحول التاريخي في القبلة، والذي وقعت أحداثه في هذا المسجد، استجابة للوحي الإلهي كما ورد في قوله تعالى:
“قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا”. “البقرة: 144”
وفي منتصف صلاةٍ من الصلوات، استدار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو الكعبة المشرفة، فتحوّل بذلك المسجد إلى نقطة تحول في التاريخ الإسلامي، وسُمّي منذ ذلك الحين بـ “مسجد القبلتين”.
هذا الحدث الفاصل منح المسجد بُعدًا روحانيًا وجغرافيًا فريدًا، حيث لا يوجد في العالم مكان شهد هذا التحول المقدس سواه، مما جعله محط اهتمام الزوار والحجاج منذ قرون، وجزءًا من مسار الزيارة النبوية.
الهوية المعمارية للمسجد وخصوصية التصميم
تتميز البنية المعمارية لمسجد القبلتين بأصالتها وتاريخها، لكنه خضع لعدة تطويرات أبرزها في العهد السعودي، حيث تم ترميمه وتوسيعه دون الإخلال بهويته البصرية. وقد تم إزالة إحدى القبلتين أثناء التوسعة عام 1987م لإزالة اللبس العقائدي، والإبقاء على القبلة الصحيحة فقط، مع الإشارة إلى الحدث التاريخي في التصميم الداخلي للمسجد.
يحافظ المسجد اليوم على مئذنتين متقابلتين، وقبة مركزية بيضاء تعلو منطقة الصلاة، في مشهد يربط الماضي بالحاضر المعماري. كما يتميز التصميم الداخلي بالهدوء والبساطة التي تُعزز الروحانية، مع استخدام مواد بناء حديثة تراعي التهوية والضوء الطبيعي.
مشروع مركز القبلتين الحضاري: تطوير شامل برؤية مستقبلية
في إطار الجهود السعودية الهادفة إلى تطوير المواقع الدينية وتحويلها إلى منصات حضارية متكاملة، يأتي مشروع مركز القبلتين الحضاري بوصفه نموذجًا متطورًا يعكس تكامل الهوية الدينية مع التخطيط العمراني الذكي. يُمثل هذا المشروع ركيزة ضمن استراتيجية المملكة لتعزيز السياحة الدينية والثقافية، وتحقيق أحد مستهدفات رؤية السعودية 2030، من خلال تحويل المعالم التاريخية إلى مواقع حية تستقبل الزوار بخدمات متكاملة وتجربة روحية ومعرفية غنية.
يرتكز المشروع على توسعة المسجد التاريخي ضمن معايير عمرانية تحترم طابعه الديني وتاريخه العريق، مع الحفاظ على الهوية الجمالية للمكان، دون إخلال بالمساحة الروحية أو البنية المعمارية الأصلية. ويُعد المشروع استجابة مباشرة للنمو المستمر في أعداد الزوار المحليين والدوليين، حيث يسعى لتوفير بيئة منظمة وآمنة ومهيأة للزيارات الفردية والجماعية على مدار العام، خصوصًا في المواسم الدينية.
يتضمن المشروع إنشاء جسر مشاة عصري يربط بين مختلف مكونات الموقع، ويسهل التنقل دون عوائق مرورية، إلى جانب مواقف مخصصة للحافلات والسيارات، ما يسهم في تخفيف الازدحام وتحسين تجربة الوصول. كما يشمل مركزًا ثقافيًا يُعرّف الزوار بقصة مسجد القبلتين وتحول القبلة، عبر وسائل تفاعلية ومعارض رقمية، إضافة إلى مركز معلومات، ساحات للأنشطة، ومرافق عامة ذكية تخدم كل فئات الزائرين من كبار السن وذوي الإعاقة.
ويُتوقع أن يُعزز هذا المشروع من القيمة الرمزية والعمرانية للمسجد، ليصبح نقطة جذب دينية وسياحية وثقافية، مع ربطه بمسار “الزيارات النبوية” الأوسع، الذي يشمل مسجد قباء، مسجد الجمعة، ومواقع الخندق. هذه الرؤية التكاملية تؤكد التزام السعودية بتقديم التجربة الدينية في قالب حضاري يليق بمكانة المدينة المنورة كعاصمة روحية للعالم الإسلامي.دور المسجد في الذاكرة الإسلامية والسياحة الروحية
تحوّل مسجد القبلتين إلى محطة رئيسية في برنامج الزيارة الدينية للمدينة المنورة، خاصة لزوار المسجد النبوي الشريف، حيث يُشكل جزءًا من “المسار النبوي” الذي يشمل أيضًا مسجد قباء ومسجد الجمعة والمساجد السبعة. ويُنظر إلى تطويره على أنه خطوة استراتيجية في تعزيز الاقتصاد الديني، وتنشيط تجربة الزائر من خلال توفير بيئة متكاملة من الخدمات والأنشطة ذات الطابع الإسلامي.
وقد نشرت هيئة تطوير المدينة المنورة دراسات تؤكد أن تحسين المواقع الدينية يسهم في رفع متوسط إقامة الزائر وزيادة الإنفاق السياحي، مما يعزز من مردود هذه المواقع على التنمية المحلية.
مسجد القبلتين هو أكثر من مجرد مسجد، إنَّهُ رمز حي للتحول والطاعة والهوية الإسلامية. ومن خلال مشروع المركز الحضاري، تعيد المملكة تقديمه للعالم ليس فقط كموقع أثري، بل كمحور حضاري يعكس تكامل الدين والعمران والتقنية في سياق رؤية وطنية واعية.