كما أن هذه البكتيريا “الشافية”، يجب أن تنتظر لعدة سنوات وهي كامنة قبل أن يتم تنشيطها بالماء. وقد اختار جونكرز البكتيريا العصوية لهذا الهدف بالذات، لأنها تزدهر في الظروف القلوية وتنتج جراثيم يمكنها البقاء لعقود من دون طعام أو أكسجين.
ويقول جونكرز: “لم يكن التحدي التالي فقط أن تكون البكتيريا نشطة في الخرسانة، ولكن أيضاً جعلها تنتج مواد إصلاح للخرسانة”.
فعلى الرغم من أن هذه البكتيريا كانت بمثابة تقدُّم كبير لجونكرز وفريقه، إلا أنهم بقوا بحاجة إلى تزويدها بمصدر للغذاء لتنتج المادة المطلوبة، وذلك قبل توليدها للجراثيم. كان السكر أحد الخيارات، لكن إضافة السكر إلى المزيج من شأنه أن يخلق خرسانة ناعمة وضعيفة. لذلك قرروا استخدام لاكتات الكالسيوم، الذي هو أحد مكونات الحليب. ثم وُضعت البكتيريا والكالسيوم في كبسولات قابلة للتحلل، وخُلطت مع الخرسانة الرطبة.
حينما تتشقق الخرسانة، يدخل الماء إلى هيكلها الداخلي، فتُفكك الرطوبة قشرة الكبسولات البلاستيكية القابلة للتحلل الحيوي، والتي تغلف لاكتات الكالسيوم. ثم يوقظ لاكتات الكالسيوم البكتيريا التي تستهلكه، وبذلك تقوم بدمج الكالسيوم مع أيونات الكربونات لتشكيل الكالسيت (معدن يتشكَّل من كربونات الكالسيوم)، وهذا هو الحجر الجيري المطلوب.
عند حدوث هذه العملية البكتيرية، يمتد الحجر الجيري، الذي تكون من جديد، ليملأ الشقوق الناتجة عن الماء، وبالتالي يعيد بناء الهيكل من الداخل إلى الخارج، ويسد تماماً النقطة الأولية التي بدأ فيها التصدع.
وتشبه طريقة إعداد الخرسانة الحيوية تماماً خلط مكونات الخرسانة العادية، ولكن مع عنصر إضافي هو “عامل الشفاء الذاتي”، أي البكتيريا وغذاؤها، الذي يظل سليماً أثناء الخلط، لكنه يتفكك لاحقاً عندما تدخل المياه إليه من خلال الشقوق.
وفقاً لجونكرز: “في المختبر، تمكنَّا من إصلاح الشقوق بعرض 0.5 مم، والآن نعمل على تطوير ذلك. علينا أن ننتج ذلك بكميات ضخمة، لذلك بدأنا بإجراء اختبارات في الهواء الطلق، وننظر في كيفية استعمالها في المنشآت المختلفة، وفي أنواع مختلفة من الخرسانة، لمعرفة ما إذا كان هذا المفهوم يعمل حقاً في الواقع”.
وأمل جونكرز، في حينه، أن تكون الخرسانة الخاصة به بداية عصر جديد من المباني البيولوجية، فيقول: “إنها تجمع الطبيعة مع مواد البناء. الطبيعة توفِّر لنا كثيراً من الوظائف مجاناً، وفي هذه الحالة، البكتيريا المنتجة للحجر الجيري. فإذا استطعنا إدخالها في المواد، يمكننا الاستفادة منها فعلاً. لذلك أعتقد أنه مثال رائع على ربط الطبيعة والبيئات المبنية معاً في مفهوم واحد جديد”.

تطور إضافي مهم
الخطوة النوعية التالية جاءت حديثاً من جامعة كولورادو بولدر، ونُشرت نتائج أبحاثها في مجلة “ماتر” في 15 يناير 2020م. ولخص مضمونها ويل سوروبار، الأستاذ المساعد في قسم الهندسة المدنية والبيئية والهندسة المعمارية في الجامعة المذكورة، على الشكل التالي: “نحن نستخدم بالفعل مواد بيولوجية في مبانينا، مثل الخشب، لكن هذه المواد لم تعد حية. نحن نسأل: “لماذا لا يمكننا أن نبقيها على قيد الحياة وأن نجعل هذه البيولوجيا تفعل شيئاً مفيداً أيضاً؟”.
طريقة إعدادها
استخدم سوروبار وزملاؤه نوعاً مختلفاً عن البكتيريا التي استخدمها قبله جونكرز. فاختار المتعاقبة الحبيبية، (Synechococcus)، لإنشاء كتل بناء في مجموعة متنوِّعة من الأشكال.
01
تخلط مواد غير عضوية، مثل الرمل والحصى والكالسيوم والجيلاتين، مع بكتيريا المتعاقبة الحبيبية
02
ينتج عن خلطها بالماء مواد بناء عضوية. والخطوة التالية تتوالد هذه القطع إلى قطع أخرى لا تحصى بعد تعرضها للشمس والرطوبة
03
تجفف هذه القطع قبل استعمالها. والقطع غير المستعملة وغيرها يمكن إعادة تدويرها كمصدر جديد للمواد نفسها
وقام الفريق بمحاكاة التمثيل الضوئي في الطبيعة، حيث تمتص هذه الكائنات الدقيقة أشعة الشمس وثاني أكسيد الكربون كمغذيات، وتلفظ كربونات الكالسيوم. وهكذا فإن لهذه العملية القدرة على الانتقال من إنتاج خرسانة يعتمد على الطاقة التقليدية الكثيفة، لإنتاج الإسمنت، إلى إنتاج يعتمد على الطاقة المتجدِّدة تكون أكثر ملاءمة للبيئة بسبب اعتمادها على التمثيل الضوئي.
ودمج الباحثون البكتيريا مع الجيلاتين والرمل ومواد مغذية في خليط سائل، ثم وضعوها في قالب. وبفعل الحرارة وأشعة الشمس، أنتجت البكتيريا بلورات من كربونات الكالسيوم حول جزيئات الرمل، في عملية مماثلة لكيفية تشكل الصدف في المحيط. وعند تبريده، عزز الجيلاتين الخليط وأصبح على شكل جل. ثم قام الفريق بتجفيف الهلام لتشديده، حيث تستغرق العملية برمتها عدة ساعات.
تتمثل ميزة استخدام البكتيريا في إنتاج الخرسانة في أنه إذا لم يتم تجفيفها بالكامل، فإنها تستمر في النمو تلقائياً، تماماً كما تتمدَّد عند التشقق لسد الفراغات. وقد أظهرت الاختبارات أن قطعة واحدة من القرميد تتكاثر إلى ثمانية من دون إضافة أية مواد أخرى. وهكذا يمكن التحكم بالنمو من عدمه في أي وقت عن طريق إدخال الرطوبة إلى المكون. كل ذلك قبل الاستخدام في الأبنية والمنشآت. لكن هذه الديناميكية تعود إلى العمل عند حصول التشقق لاحقاً في المستقبل.
اقتصادية وصديقة للبيئة
تقول المهندسة الميكانيكية لينا غونزاليس، التي تعمل حالياً في هيئة التدريس بجامعة ماساتشوستس لويل: “أعتقد أن فكرة استخدام البكتيريا الزرقاء (cyanobacteria) لصنع هذه المواد فكرة جيدة حقاً”، وهي تلاحظ أن البكتيريا الزرقاء تمتص ثاني أكسيد الكربون. وذلك بعكس ما تفعل العملية التقليديـة لصنع الإسمنت، التي تتطلب حرارة كبيرة، تأتي عادة من حرق الوقود الأحفوري. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن صناعـة الإسمنت تتسبَّب بنحو %7 من إجمالي انبعاثات الكربون في جميع أنحاء العالم.
وإضافة إلى أنه عند استخدامها في بناء الجسور والأنفاق والطرق، يمكن للخرسانة الحيوية توفير المليارات من تكاليف الصيانة السنوية. ففي الوقت الحالي، يعمل سوروبار على تقليل تكلفة المواد للاستخدام في المشاريع الكبيرة. إذ يبلغ سعر المتر المكعب للخرسانة البيولوجية حالياً نحو 239 دولاراً. ويأمل الباحثون أن يؤدِّي أسلوبهم الجديد في تغليف البكتيريا ولاكتات الكالسيوم، إلى تخفيض تكلفة الخرسانة الحيوية بنسبة تصل إلى %50، مما يجعل المادة أغلى قليلاً فقط من الخرسانة التقليدية.
ويقول سوروبار، إن الاحتمالات في المستقبل كبيرة. ستباع أكياس مليئة بقطع مجففة لصنع مواد البناء الحية. فقط أضف الماء، وستنمو هذه القطع إلى أضعافها ويمكن للأشخاص في الموقع البدء في تشكيل منازلهم الميكروبية. “لقد حددت الطبيعة كيفية القيام بكثير من الأشياء بطريقة ذكية وفعَّالة. نحن بحاجة فقط إلى إيلاء مزيد من الاهتمام”.