أبنية – خاص
تسعى الصناعات الثقيلة، مثل الخرسانة والفولاذ، إلى تطوير تقنيات تحييد الكربون لجعل هذه المواد جزءًا من الحل بدلاً من المشكلة. مع تزايد الوعي بتأثيرات التغيير المناخي. تُعتبر صناعة الخرسانة مسؤولة عن حوالي 8% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، بينما تُسهم صناعة الفولاذ بنسبة كبيرة أيضًا. لذا، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات مبتكرة لامتصاص وتخزين الكربون داخل هذه المواد.
تقنيات تحييد الكربون في صناعة الخرسانة
تُعد تقنية المعالجة بالكربون “Carbon Curing” من أكثر الابتكارات الواعدة في سبيل تحييد الكربون داخل صناعة الخرسانة. تقوم هذه التقنية على مبدأ حقن ثاني أكسيد الكربون في الخلطات الخرسانية أثناء عملية الخلط أو المعالجة، حيث يتفاعل هذا الغاز مع هيدروكسيد الكالسيوم الموجود طبيعيًا في الخرسانة لتكوين كربونات الكالسيوم الصلبة. هذه العملية لا تُسهم فقط في تقوية بنية الخرسانة وزيادة مقاومتها، بل تؤدي أيضًا إلى “تخزين دائم” لثاني أكسيد الكربون داخل المادة، مما يمنعه من العودة إلى الغلاف الجوي ويجعل من الخرسانة مادة قادرة على امتصاص الكربون بدلًا من إطلاقه.
في ابتكار مختلف يعتمد على المصادر البيولوجية، طوّر فريق من جامعة كولورادو طريقة رائدة تقوم على استخدام الحجر الجيري الناتج من الطحالب الدقيقة في صناعة الأسمنت. تقوم هذه الطحالب بعملية التمثيل الضوئي لامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتكوين كربونات الكالسيوم بشكل طبيعي، وهي المادة الأساسية في إنتاج الأسمنت. يُعَد هذا النهج ثوريًا لأنه يُحوّل عملية إنتاج الأسمنت—وهي واحدة من أكبر مصادر الانبعاثات في العالم—إلى عملية ذات بصمة كربونية شبه صفرية، من خلال استبدال المواد الخام التقليدية بمواد حيوية ماصة للكربون.
أما في مجال إعادة تدوير الخرسانة القديمة، فقد قدّم باحثون من جامعة كامبريدج حلاً عمليًا وفعالًا يدمج بين الاقتصاد الدائري والتحييد الكربوني. اكتشف هؤلاء الباحثون أن الأسمنت المتبقي في الخرسانة القديمة يتمتع بخصائص كيميائية شبيهة بـ”تدفق الجير” المستخدم عادة في مصانع الفولاذ. ومن خلال إعادة استخدام هذا الأسمنت في عملية إنتاج الفولاذ، يتم تكوين خبث مطابق تقريبًا للكلنكر، ما يتيح إعادة استخدامه مجددًا في إنتاج الأسمنت الجديد. هذا النموذج يُمكن أن يُطبّق مرارًا دون فقدان في الكفاءة، مما يُغني عن الحاجة لاستخراج المواد الخام من جديد، ويوفّر كميات كبيرة من الطاقة.
تُثبت هذه التقنيات مجتمعة أن مستقبل صناعة الخرسانة لا يجب أن يكون عبئًا على البيئة، بل يمكن أن يكون جزءًا من الحل المناخي. ما بين التفاعلات الكيميائية داخل الخلطة، والمصادر البيولوجية المتجددة، وإعادة تدوير الموارد الموجودة، يمكن تحويل الخرسانة من أكبر الملوثين إلى عنصر إيجابي يُسهم في تقليل الانبعاثات العالمية. ومع التقدم المستمر في الأبحاث، يُتوقّع أن تدخل هذه الأساليب حيز التنفيذ التجاري على نطاق أوسع خلال السنوات القليلة القادمة.
تقنيات تحييد الكربون في صناعة الفولاذ
في مواجهة التحديات البيئية الناتجة عن صناعة الفولاذ، ظهرت تقنية أفران القوس الكهربائي (EAF) كخيار واعد لتقليل الانبعاثات الكربونية. بخلاف الأفران التقليدية التي تعتمد على الفحم لاختزال الحديد، تُستخدم في هذه التقنية خردة الفولاذ المعاد تدويرها كمادة خام، ويُولّد القوس الكهربائي درجات حرارة عالية كافية لصهر المعدن دون حرق الوقود الأحفوري. ووفقًا لتقارير الصناعة، يمكن أن تقلل هذه الطريقة من الانبعاثات بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بالطرق التقليدية، خاصة عندما تكون الطاقة الكهربائية المستخدمة مستمدة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية أو الرياح.
جانب آخر من الجهود يتمثل في إضافة عناصر سبائكية لتعزيز خاصية التجوية الطبيعية للفولاذ. عبر دمج معادن مثل النيكل والكروم والنحاس، يتفاعل الفولاذ مع الهواء لتكوين طبقة زنجار واقية تعزل المعدن عن التآكل المستمر. هذا النهج يُقلل من الحاجة إلى الطلاءات الكيميائية وعمليات الصيانة المكلفة، ويُطيل من عمر المنتج في البيئات القاسية، خاصة في مشاريع البنية التحتية والجسور. وقد أصبح هذا النوع من الفولاذ، المعروف تجاريًا باسم “Weathering Steel”، مستخدمًا في مشاريع واسعة مثل جسور الطرق والمباني الصناعية في أوروبا وأمريكا.
أما التقنية الثالثة فتتمثل في التجوية المُسرّعة للفولاذ، وهي عملية صناعية تقوم بمحاكاة التعرية الطبيعية ولكن ضمن بيئات مُحكمة ومُراقبة. تُعرض فيها العناصر الفولاذية لظروف رطوبة وحرارة محددة تسرّع من تشكّل طبقة الزنجار في فترة زمنية أقصر، ما يُتيح استخدامها الفوري دون الحاجة لفترات طويلة من التعرض البيئي. هذه التقنية تُستخدم حاليًا في مصانع كبرى تُنتج مكونات جاهزة للبناء، وتُعد وسيلة ذكية لتقليل الاعتماد على المعالجات الكيميائية وتحسين الأثر البيئي للفولاذ على مدى دورته الحياتية.
أمثلة واقعية لتطبيقات تحييد الكربون
من أبرز المبادرات التطبيقية في مجال تحييد الكربون تأتي تقنية CarbonCure، وهي ابتكار كندي حاز على اهتمام عالمي. تعتمد هذه التقنية على حقن ثاني أكسيد الكربون في الخرسانة الجاهزة أثناء عملية الخلط، بحيث يتفاعل الكربون مع هيدروكسيد الكالسيوم لتكوين كربونات الكالسيوم، ما يُعزز من قوة الخرسانة ويُقفل الكربون داخلها بشكل دائم. هذه التقنية مستخدمة اليوم في مئات من مصانع الخرسانة حول العالم، ووفقًا للشركة، يمكن لكل متر مكعب من الخرسانة أن يُخزّن حوالي 0.5 كجم من ثاني أكسيد الكربون دون أي تأثير سلبي على الجودة.
في صناعة الفولاذ، تتصدر شركة ArcelorMittal جهود الابتكار البيئي، باعتبارها واحدة من أكبر المنتجين عالميًا. أطلقت الشركة عدة مشاريع لخفض انبعاثات الكربون، أبرزها مبادرة استخدام الهيدروجين الأخضر بديلًا عن الفحم في عمليات الاختزال. هذا التحول يهدف إلى إنتاج “الفولاذ الأخضر” منخفض الكربون، حيث لا ينتج عن العملية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بل بخار ماء فقط. وقد تم تطبيق هذه التقنية التجريبية في مصنع الشركة بمدينة هامبورغ بألمانيا، بدعم من الاتحاد الأوروبي، ضمن جهود نحو تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050 .ArcelorMittal – Hydrogen DRI
في الختام، تُظهر هذه التقنيات والابتكارات إمكانيات واعدة في تحويل صناعات الخرسانة والفولاذ إلى قطاعات أكثر استدامة. من خلال تبني هذه الاستراتيجيات، يمكن تقليل البصمة الكربونية لهذه الصناعات والمساهمة في مكافحة التغير المناخي.