Home تقارير كيفية تصمم عمارة تنتمي إلى المدينة من الهوية إلى الاستدامة

كيفية تصمم عمارة تنتمي إلى المدينة من الهوية إلى الاستدامة

by admin

أبنية – خاص

يُعد تصميم المباني التي تعكس هوية المدينة وتحقق مبادئ الاستدامة تحديًا يتطلب فهمًا عميقًا للتراث الثقافي والبيئي للمكان. في المملكة العربية السعودية، تتجلى هذه الفلسفة في مبادرات مثل “خريطة العمارة السعودية” التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي تهدف إلى تطوير المشهد العمراني من خلال تحديد 19 طرازًا معماريًا مستوحى من التراث السعودي والثقافة المحلية، مع دمج الحداثة والتقنيات المتطورة.

الهوية المعمارية: تجسيد الثقافة المحلية
تُعد الهوية المعمارية انعكاسًا مباشرًا للبيئة الاجتماعية والجغرافية للمكان، وتُجسّد في السعودية تراثًا غنيًا ومتنوعًا. فالعمارة النجدية مثلًا تُستخدم فيها مواد محلية كالطين واللبن، مع تفاصيل معمارية مثل العقود والأفاريز التي تساعد على العزل الحراري في مناخ الصحراء القاسي. بالمقابل، تُبرز العمارة الحجازية البُعد الجمالي والوظيفي في آنٍ واحد، من خلال استخدام الخشب المنقوش في الرواشين والشبابيك، التي تسمح بمرور الهواء دون التفريط في الخصوصية، في مدن مثل جدة ومكة والمدينة.
هذا التنوع لا يُمثل فقط اختلافًا في الطرازات، بل يُعد تعبيرًا عن الهوية الثقافية لكل منطقة. وفي السنوات الأخيرة، بدأت مشاريع عمرانية عديدة، مثل مشروع بوابة الدرعية ومبادرة خريطة العمارة السعودية، في إحياء هذه السمات ضمن رؤية حديثة تعزز الانتماء المحلي وتُوظف التراث في بناء بيئات عمرانية تتناغم مع الإنسان والمكان. ومن خلال هذه الجهود، تُعيد المملكة صياغة مدنها بطريقة تُراعي الأصالة وتواكب الحداثة.

الاستدامة: تكامل البيئة والعمارة
تُعد الاستدامة محورًا جوهريًا في توجهات العمارة المعاصرة بالمملكة العربية السعودية، حيث تُمثّل ركيزة أساسية في مشاريع رؤية 2030. ويبرز ذلك بوضوح في مشروع مدينة “ذا لاين” في نيوم، التي تُعد تجربة معمارية ثورية تهدف إلى تقليل التأثير البيئي بالكامل. صُمّمت المدينة لتكون خالية من المركبات والانبعاثات، وتعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 100%، إلى جانب البنية الرأسية التي تُقلل من استهلاك الأراضي وتحافظ على البيئة الطبيعية المحيطة.
وبحسب الموقع الرسمي لـ NEOM، فإن “ذا لاين” ستكون نموذجًا حضريًا عالميًا، يُركز على رفاهية الإنسان دون الإخلال بالتوازن البيئي. يتجلّى التكامل بين البيئة والعمارة أيضًا في تصميمات تعتمد على استخدام مواد بناء صديقة للبيئة، والتقنيات الذكية لإدارة المياه والطاقة، مما يعزز من فعالية البنية التحتية ويُحقق كفاءة اقتصادية طويلة الأمد. هذه الاستراتيجية لا تُعيد تعريف مفاهيم العمارة فحسب، بل تُرسخ مستقبلًا أكثر توازنًا بين الإنسان والمكان.

المملكة.. تحقيق نماذج معمارية تجمع الهوية بالاستدامة
تُبرز المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة قدرتها على توظيف العمارة كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية، مع دمج عناصر الاستدامة والتقنيات الحديثة. مشروع بوابة الدرعية يُجسد هذا التوجه، حيث تعمل هيئة تطوير بوابة الدرعية على إعادة إحياء المدينة التاريخية من خلال استخدام مواد بناء مستدامة مستوحاة من العمارة النجدية، مع إدخال البنية التحتية الذكية. يشمل المشروع إنشاء ساحات ثقافية، ومراكز تراثية، وفنادق فاخرة مبنية بطراز يعكس الطين والخشب النجدي، مما يُعزز من ارتباط الزائر بجذور المكان. وقد أكد الرئيس التنفيذي للهيئة في تصريحات رسمية أن المشروع يستهدف جذب 27 مليون زائر بحلول 2030 ضمن رؤية المملكة لتعزيز السياحة الثقافية.
أما مدينة العلا، فهي نموذج آخر يُجسّد التوازن بين الحفاظ على الموروث التاريخي والانفتاح المعماري العصري. في منطقة معروفة بأطلالها النبطية ومدافنها المنحوتة، أطلقت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عددًا من المشاريع التي تُعيد إحياء الموقع باستخدام استراتيجيات تصميم تُراعي الطبيعة الصحراوية، مثل الاعتماد على التهوية الطبيعية وتقنيات الطاقة الشمسية. أبرز هذه المشاريع “مركز الزوار في الحِجر” ومنتجع هابيتاس العلا، الذي حصل على إشادات دولية لقدرته على المزج بين الفخامة والحفاظ على البيئة. بحسب مجلة ArchDaily، فإن المنتجع يُعد من أبرز النماذج السياحية المستدامة في الشرق الأوسط.
وتُظهر هذه المبادرات أن المملكة لا تسعى فقط إلى إعادة إحياء تاريخها المعماري، بل إلى تصديره بصيغة معاصرة تحاكي التغيرات المناخية والاقتصادية والاجتماعية. من خلال الجمع بين الجذور والتجديد، تُقدم السعودية للعالم تجربة معمارية غنية ومتوازنة، تُعزز من مكانتها كوجهة عالمية في التصميم الحضري والمستدام.

استراتيجيات التصميم المعماري المنتمي والمستدام
تُعد الاستفادة من المواد المحلية إحدى الركائز الأساسية في تصميم العمارة المستدامة والمنتمية، إذ يُسهم استخدام الحجر، الطين، أو الأخشاب المحلية في تقليل البصمة الكربونية المرتبطة بالنقل والتوريد، كما يعزز من اندماج المبنى مع بيئته الثقافية والطبيعية. على سبيل المثال، تُستخدم الأحجار الجيرية في مناطق مثل العلا والدرعية ضمن تصاميم تحاكي السياق الطبيعي والتاريخي للمكان، ما يمنح العمارة طابعًا أصيلًا ويساعد على استمرارية الهوية البصرية في النسيج العمراني.
أما على مستوى الاستجابة للمناخ المحلي، فتسعى المشاريع المعمارية الحديثة إلى تحقيق الكفاءة البيئية من خلال تصاميم تستفيد من التهوية الطبيعية والإضاءة المحيطة، وتُقلل من الحاجة إلى أنظمة التبريد والتدفئة. يتم ذلك عبر التوجيه الصحيح للمباني، استخدام الظلال، الأفنية الداخلية، والواجهات المتكيفة. مشروع “بيت السدو” الكويتي، الذي حصل على جائزة الآغا خان، يُعد مثالًا على مبنى حديث يستلهم حلوله المناخية من الموروث الخليجي، مما يعكس كيف يمكن للتصميم أن يكون حليفًا للبيئة.
وأخيرًا، فإن دمج العناصر التقليدية مع التقنيات الحديثة يُحقق التوازن الضروري بين الأصالة والابتكار. فتوظيف عناصر كالروشان الحجازي أو المشربيات مع واجهات ذكية قابلة للتحكم في الإضاءة والعزل يعكس فهمًا عميقًا للسياق الثقافي والتكنولوجي في آنٍ واحد. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، مشروع “متحف إثراء” في الظهران، الذي يُقدم واجهة مبتكرة باستخدام الألمنيوم المصقول، مستوحاة من الكثبان الرملية، مع بنية ذكية تُراعي كفاءة الطاقة، مما يجعله نموذجًا يحتذى به في العمارة الخليجية الحديثة.

ختامًا، تصميم عمارة تنتمي إلى المدينة يتطلب فهمًا عميقًا للهوية الثقافية والبيئية للمكان، مع تبني مبادئ الاستدامة. من خلال دمج التراث مع التقنيات الحديثة، يمكن تحقيق تصاميم معمارية تعكس هوية المدينة وتلبي احتياجات المستقبل.

You may also like

اترك تعليقك :