أبنية – خاص
تتسارع وتيرة الحياة في المدن الحديثة وتتعاظم فيها الحاجة إلى فضاءات آمنة للقاء، كما تبرز المكتبات العامة بوصفها أكثر من مجرد أماكن لحفظ الكتب. إنّها مراكز حضرية نابضة، تتيح للناس أن يلتقوا، يتعلموا، ويعيدوا تشكيل العلاقة مع المعرفة والمجتمع. لم تعد المكتبة في العصر الرقمي ملاذًا فرديًا صامتًا، بل تحولت إلى مساحة مدنية تعزز الإبداع والمشاركة والتنوع الثقافي.
تتطور هذه الفضاءات في تصميمها ووظيفتها لتصبح قلبًا اجتماعيًا نابضًا داخل المدن، تجمع بين الطابع المعماري الجذاب، والتقنيات الحديثة، والبرامج المجتمعية التي تخدم شرائح واسعة من السكان، من الأطفال إلى كبار السن، ومن الباحثين إلى الفنانين.
مكتبة بوسكوس العامة “ولاية مكسيكو” المكسيك
تقع مكتبة “Bosques” في بلدية تاللبان التابعة لولاية مكسيكو، وهي إحدى الولايات الأكثر كثافة سكانية في جنوب وسط المكسيك. هذه المكتبة تعد نموذجًا حيًا لكيفية تكيّف الفضاءات العامة مع احتياجات المجتمعات الحضرية. توفر المكتبة خدمات واسعة تتراوح من الإعارة الداخلية والخارجية إلى برامج التوجيه الرقمي، وتتيح الوصول إلى الإنترنت والمصادر الرقمية، وتقدم برامج فنية وإرشادية خاصة للأطفال والباحثين.
ما يميز مكتبة بوسكوس هو دمجها العميق في النسيج المجتمعي المحلي، إذ تُنظّم جولات خارجية بإشراف متطوعين، وتقدم أنشطة تشجع القراءة وتنمّي قدرات الأطفال من خلال الفنون. تُعد هذه المكتبة مثالًا على دور المكتبة العامة في دعم التحول الاجتماعي عبر أدوات بسيطة ولكنها عميقة الأثر.
مكتبة شتوتغارت العامة “ألمانيا”
بشكلها المكعب الأبيض البسيط، تفرض مكتبة شتوتغارت حضورًا معماريًا متفردًا. التصميم الداخلي يعزز الشعور بالانفتاح والهدوء مع فراغ مركزي مضاء طبيعيًا. إلى جانب خدماتها التقليدية، تُعد المكتبة ملتقى مفتوحًا لمحبي القراءة، والعروض الفنية، والمناقشات العامة.
مكتبة هلسنكي المركزية “Oodi” فنلندا
في قلب العاصمة الفنلندية، تقف مكتبة “Oodi” كرمز معاصر للديمقراطية المعرفية. صممت لتكون أكثر من مكتبة، فهي مسرح ومطبخ ومختبر رقمي، ومكان مخصص لتبادل الأفكار. تحتوي على استوديوهات تسجيل، وطابعات ثلاثية الأبعاد، ومناطق استراحة تسمح للزوار بالمكوث لساعات طويلة في بيئة مفتوحة وعامة.
مكتبة الملك فهد العامة “جدة” السعودية
تُعد مكتبة الملك فهد العامة في جدة إحدى أبرز المبادرات الثقافية في المملكة. تأسست عام 2014 بإشراف جامعة الملك عبد العزيز، وتهدف إلى تعزيز الهوية الثقافية والمعرفية للمجتمع من خلال خدمات متكاملة تشمل الإعارة، الفهرسة الإلكترونية، وتنظيم الفعاليات الثقافية والتعليمية. تنقسم المكتبة إلى ستة أقسام رئيسية: المكتبة الرئيسة، مكتبة المبصرين، مكتبة الطفل، مكتبة المرأة، مكتبة الشباب، إضافة إلى قاعات القراءة والبحث المباشر.
ما يميز هذه المكتبة هو تنوّع خدماتها الرقمية والمعرفية، مثل مبادرة “المعرفة عطاء ونماء” التي أُطلقت عام 2020، لتقديم محتوى إلكتروني شامل يغطي مختلف مجالات المعرفة. كما توفر المكتبة خدمة الإحاطة الجارية، والإعارة، وخدمة النسخ المجاني، ما يجعلها نموذجًا حديثًا للمكتبة المتفاعلة مع جمهورها والمتكاملة مع احتياجات المجتمع السعودي.
مكتبة محمد بن راشد “دبي” الإمارات
تمثل هذه المكتبة واحدة من أكثر المشاريع الثقافية طموحًا في المنطقة العربية. تصميمها مستوحى من شكل “رحلة الكتاب”، وتضم قاعات متعددة للاطلاع والنقاشات، ومعارض للتراث، وأرشيفًا رقميًا ضخمًا. تهدف لأن تكون منصة للإبداع واللقاء الثقافي، وتستقبل مختلف الفعاليات المجتمعية والفكرية.
مكتبة الإسكندرية الجديدة “مصر”
وريثة للمكتبة الأسطورية القديمة، تستعيد مكتبة الإسكندرية موقعها التاريخي كمركز للمعرفة العالمية. تصميمها المستدير والواجهات الحجرية المائلة يرمزان إلى الشمس والعصور القديمة. وهي ليست فقط مركزًا للأبحاث بل أيضًا مساحة ثقافية مفتوحة للمجتمع المحلي والزوار الدوليين. تضم قاعات للندوات، معارض، ومراكز تكنولوجية حديثة.
لماذا المكتبات؟ ولماذا الآن؟
تؤكد هذه النماذج أن المكتبات العامة اليوم تلعب أدوارًا أعمق من مجرد إتاحة الكتب. إنها مساحات حضرية مرنة تعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمدينة، وتمنحه مكانًا للتفاعل خارج دوائر الاستهلاك السائدة. وسط التحديات الاقتصادية والرقمية، تبقى المكتبة رمزًا للمجانية، والتشاركية، والتفكير الجماعي.
في ظل التحولات الحضرية السريعة، يمكن للمكتبات أن تكون منصات مرنة لصناعة المجتمعات الواعية، ولتعزيز الحوار، وتمكين الفئات الأقل حظًا من الاندماج والمشاركة. إنها فضاءات لا تُقاس بعدد الكتب، بل بعمق العلاقات التي تنسجها داخل النسيج الاجتماعي.
دور المكتبات في تعزيز التفاعل المجتمعي
تشير دراسة حديثة إلى أن المكتبات العامة في المكسيك، مثل مكتبة بوسكوس في مكسيكو سيتي، قد تحولت إلى مراكز مجتمعية تقدم مجموعة من الأنشطة والبرامج الثقافية والقرائية التي تساعد المجتمع على النهوض والتطور الذاتي، رغم الإمكانات المادية المحدودة.
المكتبات كمساحات متعددة الثقافات
وفقًا لبيان الاتحاد الدولي “IFLA” للمكتبة متعددة الثقافات، الصادر عام 2009، يجب على المكتبات أن تخدم جميع أفراد المجتمع دون أي تمييز مبني على الموروث اللغوي والثقافي، وتوفير المعلومات في سيناريوهات ولغات مناسبة، وتمكين الوصول إلى نطاق واسع من المواد والخدمات التي تعكس كل المجتمعات والاحتياجات.