Home تقارير الأسمنت الحيوي.. هل تبني البكتيريا مستقبل المباني؟

الأسمنت الحيوي.. هل تبني البكتيريا مستقبل المباني؟

by admin

أبنية – خاص

يبحث العلماء والمهندسون عن حلول مبتكرة لتقليل البصمة الكربونية لقطاع البناء، ومن بين هذه الابتكارات يبرز الأسمنت الحيوي كخيار واعد يجمع بين الاستدامة والكفاءة.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة، يعتمد هذا النوع من الأسمنت على استخدام البكتيريا في عملية التصلب، مما يقلل من الحاجة إلى درجات حرارة عالية وبالتالي يُقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

ماذا يعني الأسمنت الحيوي؟

الأسمنت الحيوي هو مادة بناء تستخدم البكتيريا لتحفيز عملية التصلب. تقوم هذه البكتيريا بإنتاج كربونات الكالسيوم، التي تعزز من قوة ومتانة المادة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأسمنت الحيوي إصلاح الشقوق الصغيرة ذاتيًا، مما يزيد من عمر المباني ويقلل من الحاجة إلى الصيانة المستمرة.

دراسات حديثة تدعم الفكرة

في دراسة ماجستير مسجلة بجامعة القاهرة، كشفت الباحثة أميرة سيف النصر مصطفى عن إمكانية إنتاج أسمنت حيوي مستدام باستخدام رماد المخلفات الزراعية مع إضافات نانوية. وتهدف هذه الدراسة إلى تخفيف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن إنتاج الأسمنت التقليدي. وقد تمثّل الابتكار في استخدام الرماد الناتج عن الانحلال الحراري لقوالح الذرة، كمكون أسمنتي تكمِيلي يُضاف إلى خليط الأسمنت البورتلاندي، مع الحفاظ على الخصائص الهندسية وتحسينها، لا سيما قوة الضغط والانحناء ومقاومة امتصاص الماء.
أظهرت نتائج الدراسة أن الدمج بين البكتيريا والمكونات النانوية يُعزّز من فعالية الأسمنت الحيوي. فقد تم استخدام بكتيريا Staphylococcus arlettae، التي ساهمت في تسريع عملية التمعدن الحيوي عبر ترسيب كربونات الكالسيوم “CaCO₃”، ما أدى إلى إغلاق الشقوق الخرسانية تدريجيًا. وقد أظهرت التجارب أن إضافة 5 ملغم/لتر من صفائح نتريد الكربون الجرافيتي “g-C3N4 NSs” مع 10% من رماد قوالح الذرة أعطت أعلى معدلات قوة الضغط بنسبة 1.67 مرة والانحناء بنسبة 1.26 مرة مقارنة بالأسمنت البورتلاندي العادي، مع خفض امتصاص الماء بأكثر من 20%.

جامعة كولورادو بولدر .. الخرسانة الحية تعالج الشقوق

في يناير 2020، نشر فريق بحثي من جامعة كولورادو بولدر دراسة في مجلة Matter التابعة لمجموعة Cell Press، حول تطوير مواد بناء حية باستخدام البكتيريا الزرقاء والهلام والرمل. تُمكّن هذه المواد الجديدة من التجديد الذاتي وإصلاح الشقوق تلقائيًا، وتُقلل من الاعتماد على الأسمنت التقليدي عبر تقليل الانبعاثات الكربونية.
تُشير نتائج الدراسة إلى أن هذه المواد لا تكتفي بالصلابة والمتانة، بل يمكنها التكاثر ذاتيًا: حيث تمكّن الباحثون من إنتاج 8 قوالب من قالب واحد عبر ثلاث أجيال. وصرّحت الدكتورة تشيلسي هيفيران، المشاركة في البحث، أن هذا التوجه “يمثل تحوّلًا نحو البنية التحتية الحية التي يمكنها التفاعل مع بيئتها المحيطة”.

مشروع BioMASON بالولايات المتحدة.. التمعدُن الحيوي

شركة BioMASON الأمريكية طورت نوعًا من الطوب الإسمنتي باستخدام البكتيريا بدلًا من الحرارة العالية. في هذا المشروع، يُحقن قالب الطوب بالبكتيريا التي تقوم بعملية التمعدن الحيوي لتكوين كربونات الكالسيوم، مما يؤدي إلى تصلبه تمامًا دون الحاجة إلى أفران أو انبعاثات كربونية.
هذا الابتكار يُستخدم فعليًا في مشاريع البناء في الولايات المتحدة، ويهدف إلى تقديم بدائل منخفضة الكربون ومستدامة بالكامل، وقد حصل على تمويل من وزارة الدفاع الأمريكية لاستخدام هذه التقنية في بناء منشآت ميدانية أكثر استدامة.

تحديات أمام التطبيق الواسع

رغم ما يحمله الأسمنت الحيوي من وعود ثورية في تقليل البصمة الكربونية وتطوير مبانٍ ذكية ذاتية الإصلاح، إلا أن تطبيقه على نطاق واسع يواجه حزمة من التحديات التقنية والاقتصادية. من أبرز هذه العقبات ارتفاع تكلفة الإنتاج، إذ تتطلب عملية تصنيع الأسمنت الحيوي تقنيات معملية متقدمة، ومواد مضافة مثل المواد النانوية والبكتيريا المدروسة بيئيًا، مما يزيد من تكلفة الوحدة مقارنة بالأسمنت البورتلاندي التقليدي. إضافةً إلى ذلك، تحتاج البكتيريا المستخدمة في التمعدن الحيوي إلى بيئة دقيقة من حيث الرطوبة ودرجة الحرارة ودرجة الحموضة، وهو ما يستدعي تجهيزات متطورة لضمان فاعلية المنتج.
على الصعيد التنظيمي، يفتقر هذا النوع من المواد حتى الآن إلى معايير موحدة من الهيئات الهندسية والبيئية الدولية، مما يحدّ من اعتماده في مشاريع البنية التحتية الكبرى. كما أن القبول في السوق التجاري لا يزال محدودًا، نظرًا لحداثة التقنية وخشية المطورين من المغامرة بمواد غير مألوفة في مشاريعهم. ومع ذلك، فإن استمرار الأبحاث وتحسن تقنيات الإنتاج قد يُمهّدان لتجاوز هذه العقبات وجعل الأسمنت الحيوي خيارًا أكثر شيوعًا واستدامة في المستقبل القريب.

الآفاق المستقبلية للأسمنت الحيوي

مع تسارع الابتكار العلمي وتزايد الحاجة إلى حلول مستدامة، يُتوقع أن يشهد العقد القادم قفزة نوعية في استخدام الأسمنت الحيوي في قطاع البناء. تتجه جهود الباحثين والمطورين إلى استغلال قدراته الذاتية في إصلاح الشقوق وتطويعه ليصبح جزءًا من أنظمة البناء الذكية، القادرة على الاستجابة للبيئة المحيطة. من المتوقع أن تلعب هذه التقنية دورًا محوريًا في خفض التكاليف التشغيلية طويلة الأمد، لا سيما في مشاريع البنية التحتية الحساسة.
ولعل الأفق الأكثر إثارة هو تطبيق هذه المواد في الفضاء الخارجي، حيث يختبر العلماء استخدامها في بناء مستوطنات بشرية على سطح القمر والمريخ. فقد أشارت أبحاث حديثة، مثل مشروع ناسا بالشراكة مع جامعة كولورادو، إلى أن الأسمنت الحيوي القائم على البكتيريا قد يكون مثاليًا لإنشاء وحدات مأهولة باستخدام الموارد المحلية، مع تقليل الحاجة إلى شحن المواد من الأرض.
في المجمل، لا يُعد الأسمنت الحيوي مجرد بديل بيئي للأسمنت التقليدي، بل ثورة في فلسفة البناء نفسها، حيث تندمج البيولوجيا مع الهندسة لإنتاج مبانٍ حية، متفاعلة، وأكثر انسجامًا مع البيئة. وبينما ما تزال بعض التحديات قائمة، فإن زخم الأبحاث العالمية يضع هذه التقنية على مسار تصاعدي يجعلها جديرة بالاستثمار والاعتماد في المستقبل

You may also like

اترك تعليقك :