أبنية – متابعات
باللونين الأزرق والأبيض، تميّز الطراز العمراني لمحافظات ساحل تبوك، حيث اهتم بالشرفات البارزة والفناء الداخلي المكشوف إلى السماء، واستخدام الحجر المنقبي والنورة للطلاء. وقد عكست هذه العناصر أنماط البناء المتوارثة عبر الأجيال، مما جعلها فريدة بتفصيل هندسي يُبرز جمالها ويُعزّز قدرتها على التكيّف مع صعوبة المناخ.
هذا ما أوضحه المهتمون بالتراث: عبدالملك عبدالكريم الحربي، وناصر عبدالله حسن الصالح، وبدر محمود المسلماني لـ«عكاظ»، حيث تحدّثوا عن الطراز العمراني لساحل تبوك، الذي يشمل محافظات الوجه وأملج وضباء وفقًا لما نشرته عكاظ.
جاء ذلك متماشيًا مع خارطة العِمَارَة السعودية، التي تتضمن 19 طرازًا معماريًا مستوحى من الخصائص الجغرافية والثقافية للمملكة. ويهدف هذا المشروع إلى الاحتفاء بالإرث العمراني وتعزيز جودة الحياة وتطوير المشهد الحضري في المدن السعودية، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030.
يقول الحربي إن هوية الطراز العمراني في ساحل تبوك تتبع سمات مميزة، أبرزها الفناء الداخلي الذي تلتف حوله معظم أجزاء المنزل، والأسقف العالية التي تُعد من أهم السمات المميزة.
وأضاف أن الحجر المنقبي، الشائع استخدامه في منطقة الحجاز، هو المكون الأساسي للبناء. ويتم استخراجه من الصخور القريبة من البحر، حيث يقوم بحرفيته “كسّار” بتكسيره، ثم يتولّى “حجّار” تهذيب جوانبه. بعد ذلك، يستخدمه معلم البناء في تشييد المنازل، حيث يتم رصّه بطريقة هندسية وفق مخططات البناء باستخدام الطين كعنصر رابط بين الحجارة.
وأكد ناصر عبدالله الصالح أن الحجر والطين هما أساس البناء في البيوت القديمة، حيث كانت “المكاسر” تُخصّص لتكسير الحجارة إلى أشكال مستطيلة أو رباعية تُستخدم في البناء مع الطين المخلوط ببعض الأعشاب البرية لتدعيم التماسك. كما كان يتم وضع دعامات خشبية كل متر لزيادة تقوية البناء، مع ملء الفراغات بحجارة صغيرة تُعرف بالحشو.
وعاد عبدالملك الحربي ليقول إن طريقة البناء القديمة التي تتبع الأسلوب الحجازي تُعد مثالًا رائعًا على التراث المعماري الفريد، حيث تعكس تاريخ وثقافة أهل المنطقة. وأضاف أن هذه المباني تتميز بصلابتها وقدرتها على مواجهة التحديات المناخية، مثل الحرارة العالية والأمطار الموسمية. كما أن التصميمات المعمارية تعكس الهوية الثقافية للمنطقة، حيث تتضمن تفاصيل دقيقة تعبّر عن الحرفية العالية التي تميّز بها البناؤون في تلك الحقبة.
ووصف الحربي مادة الطلاء بأنها العنصر المميز لمباني ساحل تبوك، وتُعرف محليًا بـ”النورة”. وأوضح أن هذه المادة هي الجير المطفأ، ويتم تصنيعها عبر حرق الحجر المنقبي في أحواض خاصة حتى يتحوّل إلى مسحوق، ثم يُخلط مع رمال البحر ويُخمّر لفترات قد تصل إلى شهرين، حيث تزداد جودته وصلابته كلما طالت مدة التخمير. وتُستخدم النورة لطلاء المنازل من الداخل والخارج، مما يساهم في تكييف المنازل صيفًا وشتاءً.
وعن التقسيم الداخلي للمباني التراثية في الوجه، أشار الحربي إلى أن معظمها يتسم بوجود قسم مخصص للضيوف في مقدمة المنزل، ويتميّز هذا القسم باتساع المجالس ورحابتها، مع وجود “الدكة”، وهي جلسات مرتفعة من الحجر تُغطى بالفرش والمساند المزخرفة. ويعكس هذا التصميم أهمية الضيافة في الثقافة المحلية وكيفية تفاعل السكان مع ضيوفهم.
وأضاف أن بقية أجزاء المنزل تتوزع حول الفناء الداخلي المكشوف، أو ما يُعرف بـ”الحوش”، الذي يُعد التصميم الرئيسي في العمارة التقليدية. وأوضح أن الفناء يسمح بدخول الضوء الطبيعي والتهوية لجميع أجزاء المنزل، ويُستخدم كمكان مركزي يجمع أفراد العائلة، مما يعزّز الألفة والراحة بينهم.
كما أشار إلى أن الرواشين والنوافذ الواسعة تلعب دورًا حيويًا في إضاءة المساحات الداخلية وتوفير التهوية الطبيعية. وأكد أنها ليست مجرد عناصر جمالية، لكنها جزء أساسي من التراث العمراني، حيث تنظّم درجات الحرارة داخل المنازل وتخلق بيئة مريحة للسكان.
مستودع “الحَنية”
من أهم الأركان، كما يقول الحربي، ما يُعرف بـ”الصُفة”، وهي عنصر أساسي في تصميم المنازل التراثية. وأوضح أنها ليست مجرد مساحة للتجمع، بل تمثل نقطة التقاء اجتماعية تعكس الثقافة المجتمعية لأهل الوجه. وأضاف أن الصُفة تُطل عادةً على الفناء الداخلي، مما يضفي عليها جواً من الراحة والبهجة، وتُستخدم لتبادل الأحاديث وإقامة الأنشطة العائلية.
كما لفت إلى ذكاء أهل الوجه القدماء في استغلال المساحات غير الأساسية في منازلهم، مثل المساحات تحت السلالم. وأوضح أنهم حوّلوها إلى مستودعات صغيرة تُعرف بـ”الحَنية”، تُستخدم لتخزين المواد الغذائية أو الأدوات المنزلية. وأكد أن هذه الفكرة تعكس روح الابتكار والقدرة على التكيّف مع الظروف المحيطة، مما يُساعد في تنظيم المنزل بشكل فعّال.
“الخوخة” نافذة التواصل
تحدث بدر المسلماني عن “الخوخة”، وهي نافذة صغيرة لا تتجاوز أبعادها نصف متر، تُنشأ في الحوائط الملاصقة للمنازل المجاورة. وأوضح أنها كانت تُستخدم للتواصل بين النساء لتبادل الحديث والمنافع، مثل المأكولات والمشروبات، دون الحاجة للخروج من المنزل.
كما تطرّق المسلماني إلى “التراسينة”، وهي ممرات خشبية تربط أجزاء المنزل، وتُوفر إطلالة على الفناء الداخلي. وأوضح أن هذه الممرات كانت تُستخدم للاسترخاء أو لتناول المشروبات، مع وضع الأزيار لتبريد الماء. وأكد أن هذه التفاصيل تعكس جمالية وراحة التصميم التقليدي.