أبنية – خاص
تُعد فنلندا من الدول الرائدة في تبني مفهوم “عمارة الأداء العالي” في تصميم مراكز البيانات، حيث تستغل بنيتها التحتية الفريدة ومواردها الطبيعية لتحقيق كفاءة تشغيلية واستدامة بيئية. تُشير “عمارة الأداء العالي” إلى تصميم المباني بحيث تتجاوز المعايير التقليدية في كفاءة الطاقة، الراحة البيئية، والاعتمادية، مع التركيز على تقنيات متقدمة لتحقيق أداء فائق في استهلاك الموارد وتقليل الانبعاثات.
مراكز البيانات تحت الأرض في فنلندا.. نموذج للاستدامة والكفاءة
في فنلندا، أصبحت مراكز البيانات تحت الأرض تمثل نموذجًا رائدًا لـ”عمارة الأداء العالي”، حيث تُدمج مفاهيم الكفاءة البيئية والتشغيلية في صميم بنيتها التحتية. أحد أبرز الأمثلة هو مشروع Verne Global، الذي حوّل منشآت عسكرية سابقة في كيفلافك إلى مراكز بيانات حديثة تعتمد على التبريد السائل، ما مكّنها من التعامل مع عمليات الحوسبة المكثفة بأقل استهلاك للطاقة، وتقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة ملحوظة. هذه التقنية تستبدل أنظمة التبريد الهوائي التقليدية، وتُعد مثالية للذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات الضخمة. بحسب تقرير منشور في “TechHQ” ديسمبر “2023”، فإن هذا النموذج يضع فنلندا في طليعة الابتكار في مراكز البيانات المستدامة، لا سيّما وأنَّها هذا المعمار يسعى نحو استغلال ماضي الحروب والصراعات وإدماجه في حياة الإنسان وإعطاءه قيمة سلمية رفيعة وراقية.
إلى جانب ذلك، تُعتبر البيئة الطبيعية في فنلندا عاملاً استراتيجيًا لتقليل استهلاك الطاقة، إذ تُستخدم الحرارة المنخفضة في باطن الأرض والهواء البارد في فصول طويلة لتقليل تكاليف التشغيل بشكل كبير. كما تُدمج هذه المراكز مع شبكات الطاقة المتجددة وأنظمة استعادة الحرارة التي تُستخدم في تدفئة المباني القريبة، مما يُسهم في تحقيق نموذج الاقتصاد الدائري. وتؤكد شركة “atNorth” في تقرير حديث “2024” أن فنلندا أصبحت مركز جذب عالمي لمشغلي البيانات بسبب البنية التحتية المستقرة والبيئة الجغرافية والابتكار التقني. هذا الدمج بين الطبيعة والتقنية يضع مراكز البيانات الفنلندية كأحد أبرز تجسيدات العمارة البيئية المتقدمة في العالم.
دمج التقانة بأعماق الأرض.. فوائد متعددة
تُوفر مراكز البيانات تحت الأرض في فنلندا مجموعة من المزايا البيئية والوظيفية التي تجعلها نموذجًا عالميًا للاستدامة والتقنيات المتقدمة. أولى هذه الفوائد هي الحماية الجيولوجية، حيث تؤمّن الصخور الصلبة التي تُبنى داخلها هذه المنشآت درعًا طبيعيًا ضد الزلازل والفيضانات وحتى الهجمات السيبرانية أو الفيزيائية، وهو ما يمنحها مستويات أمن استثنائية مقارنة بالمراكز التقليدية فوق الأرض. وبفضل المناخ الفنلندي البارد على مدار العام، تُستخدم تقنيات التبريد الطبيعي أو “Free Cooling” لتقليل استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بالمعدلات العالمية، كما ورد في تقرير وكالة الطاقة الفنلندية لعام 2024.
إلى جانب الأمان والكفاءة، تتميز هذه المراكز بتقليل التلوث البصري والضوضائي، مما يجعلها ملائمة حتى ضمن البيئات الحضرية ذات الحساسية العالية تجاه الضجيج أو التشويه العمراني. فبدلًا من الأبراج والمباني الصناعية، يتم دمج البنية التحتية بسلاسة في باطن الأرض، مما يحفظ الطابع البيئي للموقع. ويُعد مركز البيانات في “Pori” مثالًا بارزًا، حيث تم إنشاء غرفة خوادم داخل نفق عسكري سابق دون أي أثر بصري على المدينة، كما وثّقته منصة Data Economy Finland” ” في أبريل 2024.
من الفوائد المهمة أيضًا إمكانية استرداد الحرارة الناتجة عن مراكز البيانات، وهي ميزة متقدمة تُسهم في بناء اقتصاد دائري للطاقة. يتم نقل الحرارة الفائضة من مراكز البيانات عبر أنابيب إلى شبكات التدفئة المركزية في المناطق السكنية المجاورة، ما يُقلل من الحاجة لاستخدام مصادر طاقة تقليدية لتدفئة المنازل. وقد بدأت مدن مثل “Espoo” و”Helsinki” في اعتماد هذه التقنية رسميًا ضمن خططها البيئية بحلول عام “2025”، وفقًا لتقرير شركة “Fortum” للطاقة. بهذه الطريقة، تتحول مراكز البيانات من مستهلك كبير للطاقة إلى مزوّد نشط في منظومة الطاقة المستدامة.
تُظهر تجربة فنلندا في بناء مراكز البيانات تحت الأرض كيف يمكن لتكامل التصميم المعماري المتقدم مع التقنيات الحديثة أن يُحقق كفاءة تشغيلية واستدامة بيئية. من خلال استغلال الموارد الطبيعية والتقنيات المتقدمة، تُقدم فنلندا نموذجًا يُحتذى به في تصميم مراكز البيانات المستقبلية التي تُلبي احتياجات العصر الرقمي مع الحفاظ على البيئة.