أبنية – خاص
يقف مسجد الجمعة شامخًا في حي بني سالم، على بعد نحو 900 متر جنوب مسجد قباء في المدينة المنورة، ليُخلّد لحظة فارقة في تاريخ الإسلام، حين صلى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول صلاة جمعة بعد الهجرة، قبل أن يُكمل طريقه إلى المدينة ويؤسس المسجد النبوي. ورغم صغر حجمه مقارنة بمساجد المدينة الكبرى، إلا أن قيمته التاريخية والروحية تتجاوز حجمه وموقعه، وتحوله إلى مزار متجدد في وجدان الزائرين.
البعد النبوي والتاريخي للموقع
ترتبط أهمية مسجد الجمعة بلحظة محورية في تاريخ المدينة المنورة، إذ يُعد أول موقع أدى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة بعد هجرته من مكة، وقد نزل في حي بني سالم حينها، ليصلي ومعه نحو مئة من المسلمين الذين خرجوا لاستقباله. لم يكن هذا مجرد أداء لصلاة، بل كان بمثابة إعلان روحي واجتماعي عن بداية عهد جديد يُؤسس فيه الإسلام لدولة قائمة على النظام والوحدة.
وفي هذا الموقع، ألقى النبي صلى الله عليه وسلم أول خطبة جمعة موثّقة في تاريخ الإسلام، تناولت مفاهيم التقوى، صلة الأرحام، والبر، وهي المبادئ التي شكّلت العمود الفقري للمجتمع المدني الأول في المدينة. وقد وردت روايات متعددة في كتب السيرة تؤكد أن هذه الخطبة كانت تأسيسًا لمبدأ الاجتماع الأسبوعي المنظّم، الذي ربط بين العبادة والوعظ والتعليم في آنٍ واحد.
وبذلك، تجاوز دور المسجد البُعد التعبدي ليُصبح نواة للتوجيه السياسي والاجتماعي والديني، وهو ما سيصبح لاحقًا من سمات المسجد النبوي والدولة المدنية الناشئة. لهذا السبب، لا يُنظر إلى مسجد الجمعة كمجرد مبنى تاريخي، بل كرمز لتجذر فكرة المسجد في الوجدان الإسلامي كمركز لتشكيل الهوية وبناء المجتمع من أول يوم في المدينة.
العمارة البسيطة والرمزية العالية
بُني مسجد الجمعة على طراز معماري بسيط يتماشى مع حجم الموقع وروحانية الحدث. يمتاز بتصميم متواضع يتضمن قبة واحدة ومئذنة قصيرة، وساحة صغيرة للصلاة، وتم تجديده عدة مرات، أبرزها في عهد الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، حيث أُضيفت إليه التوسعة الحالية ليستوعب قرابة 650 مصلٍ، مع الاحتفاظ بالطابع التاريخي للمكان.
من الداخل، تتزين القبة بآيات من سورة الجمعة بخط عربي بديع، في تذكير رمزي بمكانة الصلاة الأسبوعية في حياة المسلمين. كما جُهز المسجد بكافة الخدمات الحديثة مثل التكييف والإضاءة، مع الحرص على عدم المساس بجدرانه الأصلية، وقد تم مؤخرًا إدراج المسجد ضمن مشروع الأمير محمد بن سلمان لإعمار المساجد التاريخية، لتأهيله وتوفير بنية تحتية تليق بمكانته.
زيارات متواصلة وتجربة روحانية فريدة
يُعد مسجد الجمعة اليوم محطة ثابتة في برنامج زيارة الزوار والمعتمرين للمدينة المنورة، إلى جانب مسجد قباء والمساجد التاريخية الأخرى. تقصده الوفود الإسلامية من شتى البلدان، خصوصًا أيام الجمعة، حيث تُقام فيه صلوات جمعة رمزية استحضارًا لأول خطبة أُلقيت على أرض المدينة.
بحسب تقارير الهيئة الملكية لتطوير المدينة، فإن المسجد يشهد زيادات سنوية في عدد الزوار، ضمن خطة السياحة الدينية المتكاملة، التي تسعى لرفع متوسط إقامة الزائر وتعزيز التجربة الدينية الشاملة في المدينة المنورة.
يمثل مسجد الجمعة نقطة بداية رمزية لتاريخ المدينة كعاصمة روحية للإسلام، حيث اجتمع فيه لأول مرة المسلمون لأداء صلاة الجمعة مع نبيهم، فاتحةً لعصر جديد من التنظيم الديني والاجتماعي. واليوم، ومع الجهود المستمرة في التأهيل والترميم، يعود المسجد إلى الواجهة كمحطة روحية عميقة تربط الماضي بالحاضر، وتؤكد أن كل زاوية في المدينة تحمل قصةً مقدسة، تستحق أن تُروى وتُحفظ للأجيال القادمة.