أبنية – خاص
كانت العمارة في العقود الماضية، تُقاس بالكتل، والزوايا، ومواد البناء، حيث شكّلت الجدران، الأسقف، والممرات المساحات الأساسية للحياة والعمل. لكن في زمن تتغير فيه علاقة الإنسان بالمساحة، تصاعدت حركة جديدة في التصميم لا تهدف فقط إلى بناء منشآت، بل إلى بناء تجارب شعورية. هذه هي العمارة التجريبية “Experiential Architecture”، التي تحوّلت فيها المباني إلى أدوات تواصل، واستكشاف، وتفاعل.
من مراكز ثقافية تعيد تعريف الإدراك الحسي، إلى فنادق مصمّمة لتحفيز الحواس، إلى متاحف تُقصد ليس لرؤية ما في داخلها بل لما تفعله بك، تتقدم هذه الفلسفة كأحد أكثر الاتجاهات تأثيرًا في الهندسة المعمارية الحديثة.
من الشكل إلى الشعور: تجارب تؤثث الذاكرة
الهدف في التصميم التجريبي لم يعد فقط تنظيم الفراغ، بل تصميم المشاعر. في متحف Fondation Louis Vuitton في باريس، من تصميم المعماري الشهير فرانك جيري، لا يُشاهد الزائر المعروضات فحسب، بل يمر خلال ممرات ضوئية وصوتية، ويتنقل في مستويات تعكس تدفقًا أقرب إلى الموسيقى البصرية.
المبنى، المغطى بالزجاج المنحني كأشرعة، لا يفرض نفسه على الطبيعة، بل ينفتح عليها ويجعل الضوء والظل جزءًا من العرض. إنها تجربة بصرية تُعاش أكثر مما تُحلل.
فنادق تُصمَّم لتُحسّ: الضيافة كمساحة شعورية
في البرتغال، يعيد فندق Areias do Seixo تعريف تجربة النزيل من خلال توظيف عناصر الحواس الخمس. غرف الفندق مُصمّمة بأحجار محلية، نوافذ من الأرض للسقف، ومدافئ خشبية داخلية. لكن التصميم يتجاوز ذلك إلى خلق لحظات: حمّام مفتوح على السماء، عشاء بجانب النار، وحديقة عضوية يُدعى الضيوف للقطاف منها بأنفسهم.
النتيجة ليست إقامة، بل تجربة عميقة تُخاطب الانتماء، الهدوء، والتواصل مع الطبيعة. هذا هو جوهر العمارة التجريبية: تحويل الجدران إلى إحساس.
التصميم كحركة: عندما تُشعرك المساحة أنك تتحرك حتى لو كنت ساكنًا
في كوبنهاغن، يُعتبر المسرح الملكي الدنماركي – Skuespilhuset نموذجًا فريدًا في التصميم الحركي. صُمم من قبل استوديو Lundgaard & Tranberg Architects، ويجمع بين الخشب الداكن والزجاج الشفاف على واجهته البحرية، ليجعل من كل خطوة داخل المبنى انعكاسًا للحياة خارجًا.
الممرات تطل على الميناء، وجدران الخشب تشبه صفحات كتاب مفتوح. المسرح لا يبدأ بالعرض، بل يبدأ حين تطأ المبنى.
متاحف التجربة: حين لا تعرف أين ينتهي الفن ويبدأ الفراغ
متحف Glenstone في ميريلاند، الولايات المتحدة، يعيد ابتكار دور المتحف عبر تجربة تصميمية تُشرك الجسد. من تصميم Thomas Phifer and Partners، لا توجد لافتات، ولا خرائط، ولا “طريق إلزامي”. بدلاً من ذلك، يسير الزائر بين مبانٍ مفتوحة ومسارات حجرية ومناطق طبيعية دون مؤشرات واضحة.
الزائر لا يُوجَّه، بل يُترك ليكتشف، ويشعر، ويتفاعل بصمت، في مساحة تخلو من الضجيج البصري والإرشادي.
مبانٍ تُحاكي الإدراك: فن العمارة الغامرة (Immersive Architecture)
في طوكيو، يقدم معرض teamLab Borderless تجربة عمارة رقمية حقيقية. بدلاً من الجدران الثابتة، ينتقل الزائر بين عوالم تفاعلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، الضوء، والصوت. الحدود بين المساحة والفن تتلاشى، وتصبح كل خطوة جزءًا من تركيبة حسية متغيرة.
المكان نفسه يتغير حسب حركة الزوار، ما يجعل كل زيارة تجربة مختلفة بالكامل، لا يمكن تكرارها.
الفلسفة العميقة: من المعمار كمنفعة إلى المعمار كمعنى
العمارة التجريبية تدفع المعماري لطرح سؤال جديد: ما الذي يشعر به المستخدم أثناء العبور؟ بدلًا من السؤال التقليدي: كم عدد الغرف أو مدى ارتفاع الواجهة؟
في تقرير صادر عن Dezeen في 2025 بعنوان “Architecture of Experience” تم رصد اتجاه متصاعد نحو تصميم المساحات التي تُركّز على العاطفة والحركة والهوية الحسية.
لم تعد الجدران تكفي. ما يصنع الفرق اليوم هو كيف يشعر المستخدم عندما يكون داخل المبنى.
العمارة التجريبية تطرح تصميمًا لا يُقاس بالأمتار، بل بالأثر الذي يتركه في الذاكرة. في زمن أصبحت فيه المساحات أكثر من مجرد مأوى، أصبحت العمارة دعوة لاكتشاف الذات من خلال المكان.